تنزيل البنى التقابلية خرائط جديدة لتحليل الخطاب كاتب مغربي باحث في مجال التأويل وتحليل الخطاب .كل كتابة عالمة إبحار في مجالها وتخصصها، وكل تأليف أو تأويل لتأليف سابق، إبحار عرفاني ذهني، وكُلٌّ ومراكِبُه، وعُدَّته، ورجالُه، وخِبْرَتُه ببحر العلم الذي يخوضه وأهواله وأحواله وتقلباته. وكُلٌّ بما عاد، أو سيعود، أو لا يعود أبدا؛ هناك من عاد بالكنوز والعجائب، وهناك من عاد بالروح مؤمنةً وصحائف ملأى بالتجارب. هناك من شفى قلبَه لقب المحارب، وأرضاه من الغنيمة أنه آيب.وهناك من أدار رأس مركبه عائدا إلى البحر بمجرد الرسو.وكُلٌّ ومدى صبره وعمق قصده وصيد قصده، وبذلك اختلفت أحجام الشِّباك والمراكب، وتباينت المِلَل والمشارب، والنِّحل والمذاهب، ولطالما ابتهج أقوام على اليابسة بسبب ما اعتبره آخرون بحرا من المصائب.
سننطلق في هذه الدراسات من أسئلة واضحة لمناقشة إبحار الفعل المؤَوِّل عابرين مسلكا منهجيا مُيَسَّرا كما عَوَّدنا القارئ دائما: ما الذي يكون به الخطاب خطابا؟ ثم ما الذي يكون به بليغا؟كيف يمكن بناء مفهوم شمولي للخطاب يستفيد مما قيل عن الكلام، والقول، والنص،والخطاب، والقصد، والغرض، والمعنى، والفائدة، والحال، والمقام ؟
نفترض في هذه الإبحارات المعرفية_كما يتطلب مقام التساؤل والتأويل _ أن عمق المعنى وغوره في النص يستدعي كثرة الغواصين، وأن تبادل الجهود ومحصلات الغوص يحقق فهما جماعيا، وتأويلات متساندة.وأن مشكلات استقصاء المعنى أدت إلى صناعة أدوات الفهم وبناء العلوم الآلية.
نفترض كذلك _ فيما يتعلق بفهم الخطاب القرآني تحديدا_ أنه بالإمكان تغيير المسار الخطي التتبعي_كما هو الأمر في التفاسير(آية بآية) _ إلى مسار منهاجي تصاعدي ينطلق من بنية صغرى تتوسع عبرها الدوائر. هذا التوجه حاصل في الدراسات ذات الموضوع الواحد وفي الفقه، والفتاوى، وفي الكتابات التراثية التي تناولت قضايا معرفية أو لغوية أو بلاغية ذات موضوع واحد، فتتبعت فروعه. ونحن مدعوون إلى اكتشاف العناصر البانية لنسق توسيع دوائر المعاني والمعارف كما هو حاصل في كتاب الإحياء للغزالي مثلا، أو المقدمة لابن خلدون أو غيرها. وفي الكتابات والبحوث الجامعية، والمؤلفات الخاصة التي تنطلق من عنوان، أو قضية محورية، ثم يحصل تشعيب التناول وتقسيم الفروع، وفروع الفروع…
إن تبيان أُسُس هذا النسق التصاعدي أو التوسيعي سيفيد _ بلا ريب _ في تحريك أدوات القراءة، وبناء تجربة الفهم بالتقابلات، والتحقق من علاقات خفية بين ظواهر الخطاب وبواطنه، عبر مسارات توسيع دوائر المعنى، بالاستفادة من جهود السابقين. وبدل الاستسلام للموجات المعرفية القادمة من بحور شتى، ستحصل تجربة مساءلة العباب الذي تنطلق منه أمواج الفكر. هذا التعويل على التجربة الفردية في بناء المعرفة وبناء الذات أصبح اتجاها مطلوبا بقوة في المجال التربوي، فالمتعلمون مدعوون إلى خوض تجربة التعلم الذاتي، والتفكير بالمشروع كما تؤسس له بيداغوجيا التعلم تجاوزا لبيداعوجيا التعليم، والتصور التصاعدي في الفهم والتأويل وبناء الذات يسمح بتحقق هذه الأنوال من التجارب الفردية في قراءة النصوص وتحليلها.
الفهم المبحر مبدأ مقترح يصف تجربة شخصية واقعية في التأويل وبناء المعنى، كأن يحصل التعلق بآية قرآنية بليغة، ثم انطلاقا منها، وما قيل حولها يتحقق بشكل تفاعلي تلقائي_كما سنوضح بالمثال_ هذا الإبحار المعرفي. هذا المبدأ المقترح وصف لهذا الإبحار، وعندما قارنا ما قام به المفسرون مع ما قمنا به، وجدنا تشابها عميقا يدعو إلى التساؤل، فطرحنا فرضية الإبحار التأويلي، وهي مستوحاة من تجربة الحاسوب ورحلة البحث المتشعب، الموجَّه بكلمات مفاتيح، أو الترابطات الموضوعية التي تتحقق في الإبحار الرقمي.
سنتأكد _تبعا لما سبق_أن مبدأ التموج الدلالي وتكبير دوائر التفهم هو المحرك الأساس لهذا النسق، وأن التكبير وتتبع التشعب إلى مداه محكوم بضوابط العلم، والدقة، والوجاهة،والملاءمة… وكل اختلال في هذه الدقة معناه تضييع جزء من الرحلة، أو الرحلة كاملة في اللامعنى، أو الخروج عن المعنى؛ فيصبح التساؤل والاستكشاف نفخا في الرماد، لأنه تم دون موجهات، ودون مبادئ العلم، ودون بوصلة أو أدوات.ومن ثمة فإن التجارب السابقة في البحث عن المعنى، في تيه الذاكرة أو سفرها القاصد يمكن الانتفاع به في بناء تعلمات الفهم، وتحقيق ملكات البحث، وكفايات الفهم والتأويل، ثم كفايات تحرير الخطاب؛ لأن التطالب الحاصل في بناء المعاني على المستوى الذهني في اللغات الطبيعية يحصل مثله عند الفهم والتأويل؛ فالحركات الذهنية _كما ذكرنا_ تشعبية وترابطية، يثير بعضها بعضا، ويفضي بعضها إلى بعض لتحقيق التكامل أو التعاضد.
من ثمة فإن البحث عن المعنى قصد تحقيق إشباع الفهم لا يتم بسهولة، لعدم مطاوعة النص دائما، ولتباين مراتب البلاغة فيه، ولا يتم ذلك إلا بالعلوم التي أنتجتها الثقافة العربية لهذا الشأن، وقارئ التفاسير مثلا يجد _ إذا تأمل أنساق الخطاب_ أن مبدأ تطالب الأدوات نسق بنيوي شمولي تحكم في تأليف التفاسير، وأن حضور هذه الأدوات تابع لمستوى تمكن المفسرين منها، وقدرتهم على تشغيلها، وبناء المعاني، وتحرير الأفهام اعتمادا عليها.
يسعى المشروع الموسَّع لهذه الأبحاث إلى إعادة بناء مفهوم الخطاب من خلال التصورات العربية القديمة في الحقول البلاغية والفكرية والنقدية والتفسيرية. وتبعا لذلك، محاولة بناء نمذجة للخطابات ولبلاغة الخطاب، أو نماذج لطبقات الخطاب البليغ، سعيا لتوسيع مفهوم نظرية الخطاب كما تعكسها حركة التأليف عند العرب، وإدماج التفاسير والشروح والتعليقات والحواشي والمؤلفات الدينية الشارحة لروح الدين باعتبارها تجليات للخطاب. وذلك لإخراج الخطاب من مفهومه الضيق في مجال الرسائل والشعر والمناظرة والخطبة.. ليشمل الخطاب الكُلِّي الذي يحمله أي كتاب يؤلفه صاحبه، ليصبح الخطاب مجموع المعاني التي تحملها الأجزاء، وكذا المقاصد الكلية المراد إبلاغها المُوَجَّهة إلى من هو معني بفهمها ومتَهيِّءٌ لذلك، وكذا الأشكال التعبيرية التي حققت المعاني؛ إذ لكل خطاب ملامح أسلوبية وبنائية نصية هي التي تنقل المعاني المفهومة أو المؤَوَّلة.
ثم يتجه الأفق العرفاني لهذا التصور إلى إبراز معالم خطاب الثقافات بشكل موسع: الثقافة العربية الإسلامية، قديمة وحديثة، الثقافات الوافدة، خطاب الفلسفات والنظريات الغربية، خطاب الاتجاهات السياسية، والمذاهب الفكرية. وتبعا لتباين بلاغات التأليف ستتبين بلاغات الخطابات ومراتب المؤلفين في علم من العلوم، أو منحى من مناحي المعرفة.
البنى التقابلية خرائط جديدة لتحليل الخطاب رابط مباشر PDF