تنزيل تحميل كتاب مختصر إخاء الأديان PDF باحث في التنوير الإسلامي وحوار الأديان…
نشأ الدكتور محمد حبش في مدرسة عمه الشيخ أحمد كفتارو للعلوم الإسلامية في دمشق، وحفظ القرآن الكريم على يد الشيخ محمد سكر، كما درس العلوم الإسلامية في المعهد الشرعي للدعوة والإرشاد وحصل على درجة الإقراء بالقراءات المتواترة من شيوخ القراء ومن الفتوى السورية.
نال الإجازة في الشريعة من جامعة دمشق ثم تابع تحصيله العلمي ونال ثلاث درجات ليسانس في العلوم العربية والإسلامية من جامعات دمشق وطرابلس وبيروت كما حصل على الماجستير ونال الدكتوراه من جامعة القرآن الكريم في الخرطوم بإشراف الدكتور العلامة وهبة الزحيلي والدكتور العلامة محمد علي الإمام عام 1996، حيث بدأ بالتدريس الجامعي في جامعة دمشق وكلية الدعوة الإسلامية وأصول الدين بدمشق.
وفي عام 2010 أعلنت جامعة كرايوفا، أعرق الجامعات الرومانية أن رتبة دكتوراه الشرف قد خصصت للدكتور محمد حبش تقديراً لبحوثه ونشاطه في حوار الأديان وبشكل خاص كتابه سيرة الرسول محمد، وقد قامت الجامعة بترجمته للرومانية واعتبر مقرراً على طلبة كليات اللاهوت في الجامعة.
يتبنى الدكتور محمد حبش مشروع التجديد الديني ، وقد تخصص في التنوير الإسلامي وحوار الأديان، وقد تبنّى عدداً من قضايا التجديد الديني أهمها: رفض احتكار الخلاص، وتجديد فقه المرأة في الإسلام، وتعزيز المذهب الإنساني في الإسلام، وإحياء مصادر الشريعة الغائبة مما يعني منح دور أكبر في التشريع للعقل على حساب النص.
كان واعظاً وخطيباً وإماماً لثلاثين سنة في مسجد الزهراء بدمشق، ثم مؤسساً ومديراً لمعاهد القرآن الكريم في سوريا، ومستشاراً لمركز الدراسات الإسلامية، كما انتخب مرتين رئيساً لجمعية علماء الشريعة بدمشق بالإضافة لممارسته التأليف والشعر والكتابة.
تبنى في البرلمان عدداً من القضايا التشريعية والقانونية ومنها قانون الجنسية للمرأة السورية، وقانون الحضانة، وقانون تحسين رواتب الموظفين الدينيين، كما نجح في منع ظاهرة الإعلان عن الفحشاء في سوريا.
انتقل منذ 2012 إلى الإمارات وعمل بالتدريس الجامعي في جامعة أبو ظبي أستاذاً للفقه الإسلامي في كلية القانون، وكلية الآداب والعلوم.
حصل على جائزة رابطة كتب التجديد عن كتابه الدبلوماسية بدل الحرب 2017 و جوائز دولية عدة منها جوائز المسابقة الدولية للقرآن الكريم في السعودية وليبيا وإيران وغيرها كثير من جوائزَ أخرى…أطلق الدكتور حبش مشروعاً لافتاً في الفكر الإسلامي تحت عنوان إخاء الأديان وكرامة الإنسان، وهو عنوان دقيق يلامس عميق الأخوة الإنسانية دون أن يذهب إلى دعوات توحيد الأديان وإنتاج ديانات جديدة.
في كتابه هذا يقدم الدكتور حبش مراجعة للأصول المؤسَّسة لإخاء الأديان في مصادر التشريع الإسلامي، من النقل والعقل، ويتقدم بمنطق موضوعي لتأسيس إخاء الأديان عبر قواعد أصول الفقه المتينة التي هي في العمق قواعد العقل الفعال، حيث يطالبنا بتطبيق هذه القواعد بأنفسنا وليس عبر استنساخ تجارب الأولين.
ثم يستعرض التاريخ الإسلامي فيستخرج عشرات الحكماء والفلاسفة والفقهاء ورموز الإشراق الإسلامي الذين سبقوا للتأصيل للإخاء الإنساني، وتجاوزوا عقدة تكفير الأديان التي كانت ولا تزال سبباً جوهرياً في ثقافة الكراهية.
ثم يتحول إلى رصد ما قدمته الأديان الأخرى في العالم من الاستجابة لإخاء الأديان، ومن ثم إلى التجربة الأوروبية في عصر الأنوار التي واجهت عقائد الكنيسة الصارمة في احتكار الخلاص.
ويؤكد المؤلف أنه اختار إخاء الأديان تحديداً لأنه أشد منعطفات الوفاق الإنساني صعوبةً وتحدّياً، ويؤكد أن الهدف هو الإنسان لا الأديان، وينادي بشعار دين بين الأديان وليس ديناً فوق الأديان، وأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم.
إنها محاولة لبناء مذهب إنساني عابر للثقافات والأوطان، قائم على إخاء الأديان وكرامة الإنسان. مقال جيرون عن إخاء الأديان:
لا يخلو مقالي اليوم من دوغمائية، ومن الواجب أن أقول إنني لم ألتزم فيه أحكام العقل المحض، كما كرسه إمانويل كانط بعد أن أيقظه هيوم من سباته الدوغماطيقي، وإنما هي مقاربة إيمانية فولتيرية، بوسائل الوحي الشريف، لبناء إخاء إنساني.
مصطلح “إخاء الأديان” الذي يبدو لي أكثر المصطلحات وضوحًا في رسالة الأنبياء، يبدو لأصدقائي من رجال الدين أكثر العناوين المزعجة والمستفزة، لأنه باختصار يسوّي بين الحق والباطل، ويطبخ شوربة الأديان!!
قناعتي أن النبي الكريم لخص رسالته في القرآن الكريم، في آية ذات دلالة، تكررت 14 مرة في القرآن الكريم، وهي قوله تعالى: {مصدقًا لما بين يديه}. وقد وردت (مصدّقا ومصدّق وتصديق الذي بين يديه)، و”بين يديه” ليست مجرد ظرف زمان، بل هي كلمة عابرة للزمان والمكان، فتشمل النبوة السابقة والحكمة الصادقة والخبرة اللاحقة، وتشمل ما جاء من حكمة ونور في أرض العرب والعجم، ومن انتشر في هذه الأرض من الأمم.
ولا شك أن اختصار الإسلام، بأنه تصديق الأديان، يشمل معنى الإخاء وأزيد من معنى الإخاء بين الأديان وأتباع الأديان. ولكن هذه المعاني السهلة المبسطة تبدو اليوم مرفوضة رفضًا حادًا، في الذهنية الإسلامية الشائعة التي تقدمها من دون توقف ماكينات الخطاب الديني على منابر الجمعة والمحطات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، وهي صريحة ومدويّة بتكفير الأديان.
وبات الخطاب المزاجي في الشارع المتدين يرفض بشدة مصطلح “إخاء الأديان”، بوصفه تسوية بين الحق والباطل، وبين الجلاد والضحية، وبين الشرف والانحطاط، “أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون”!!
وقد مارس الخطاب التقليدي هذا الرفض وتجاوزه، وشاع طوال عقود عديدة، حتى على منبر الحرم الشريف، اصطلاحُ “حرب الأديان”: اللهم عليك باليهود والنصارى، فإنهم لا يعجزونك، اللهم أحصهم عددًا واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا… وهو خطاب كان نغمة ثابتة في خطبة الجمعة، ولم يتوقف إلا عبر قرارات سياسية صارمة، تشبه ما جرى في مسألة قيادة المرأة للسيارة قبل أسابيع.
هذا الدعاء اللئيم يوجهه مشايخنا فقط للأديان السماوية الأخرى، أما الأديان الأرضية أو التي نسميها كذلك فهي ليست أهلًا حتى للدعاء عليها على المنابر، وهي ليست إلا حثالة من عبّاد البقر لا حل معهم إلا بالنيزك أو عاصفة كعاصفة عاد وثمود، أو أن يخسف الله بهم الأرض، أو صيحة واحدة فإذا هم خامدون!!
لا أعتقد انني أبالغ في حرف واحد، في ما أرويه عن هذه المسألة التي أعدّها أهم نقطة في سقوط الأمة وضياعها وعجزها عن مواكبة الحياة. وسأقدم رؤيتي لإخاء الأديان من نقطتين، يمكن أن تشكّلا مشتركًا فكريًا حتى مع أصدقائنا من رجال الدين وحفظة كتاب الله ورجال الحديث والسنن.
النقطة الأولى هي الفطرة، والثانية هي الفترة.
في الفطرة يؤمن المسلمون جميعًا بأن الله تعالى خلَق الخَلق على الفطرة الأولى، وأن هذه الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها هي فطرة إيمان وتوحيد وحب للخير ونبذ للشر، والإجماع منعقد بأن فطرة الله، وروحه التي نفخها في الناس، هي طبيعة الإنسان وجوهره، وأنه لا يوجد في هذا الكوكب شخص واحد لم يُخلق بكلمة الله، ولم ينفخ فيه من روحه، ولم تستودع فيه فطرة الله.
إنها مسألة اتفاقية، وهي كفيلة بأن تبعث الحب والإخاء بين البشر، ولكن هذه الإرادة النبيلة لرسول الإسلام تتبدد، في نظر رجال الدين على أساس أن الناس يتركون فطرتهم، ويشوهونها ويتحولون إلى كافرين جاحدين محبين للشر كارهين للخير! وهذا التعميم فيه استهزاء حقيقي بالخالق سبحانه، واستهزاء بقيم الفطرة والروح التي نفخ بها عباده، حيث لم تصمد هذه الفطرة لشيء وانهارت عند أول امتحان، ومن أصل خمسة مليارات شخصٍ وُلد على غير الإسلام، انهارت هذه الفطرة فيهم جميعًا، وتحولوا إلى كفار مارقين، يستحقون جهنم وبئس المصير.
فما هذه الفطرة التي لا تصمد أمام شيء؟ وما هذه الروح الإلهية التي بعثها الله في عباده، ثم ينفخ فيها الشيطان نفخة؛ فيحيلها قاعًا صفصفًا؟! إن المسلم الذي يكفّر العالمَ كله، مدعوٌّ إلى أن يُساءَل وفق قاعدة الاستصحاب ومنع زوال اليقين بالشك. لقد أخبرنا القرآن بيقين أن روح الله وفطرته نفخت في خمسة مليارات إنسان من غير المسلمين، فهل تملك الأدلة التفصيلية على أن هؤلاء الأشخاص قد سُلبوا الفطرة التي فطروا عليها، وأن الشيطان قد سلح عليها وأبدلهم منها عارًا وشنارًا؟ قناعتي أن كل من يزعم ذلك مطالَبٌ بخمسة مليارات دليل، حتى يصبح موقفنا من تكفير العالم مبررًا، وفق شروط التوحيد التي ندرسها وندرّسها كل يوم.
الأصل واليقين هو إيمان الناس، وفق شرط الخلق والفطرة، وهذا اليقين لا يزول بالشك، وإنما يزول بالدليل والبرهان، ولا شك عندي أن الدليل والبرهان لا يزال ينقل عن الناس إيمانهم بخالق، وأننا لا نملك أدلة حقيقية إلا عن عدد محدود من أشخاص، صرّحوا بكفرهم بالخالق وتنكرهم للفطرة، و”جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلمًا وعلوًا”، وتثبت الدراسات الإحصائية أنهم لا يتجاوزون 9.2 بالمئة في العالم.
وأما المبدأ الثاني الذي يبرر إخاء الأديان إلى جانب الفطرة فهو الفترة.
والفترة موقف عقائدي ذكي وحكيم، تخيره السلف الصالح للحكم على الأقوام الذين لم تبلغهم عقيدة التوحيد، على وجه يقطع كل شك، فهؤلاء يُسمَّون “أهل الفترة”، وعادة ما يقصد علماء الحديث والتفسير أن أهل الفترة بين المسيح وبين الرسول الكريم، إذ لم تكن في تلك الفترة نبوّة ولا كتاب، والأصل في هذه الفكرة هو النص القرآني الحكيم: {يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولٌ يبين لكم على فترة من الرسل}؛ فاعتبرت الفترة بين الرسل سببًا كافيًا لاحترام الناس، على الرغم من عدم إيمانهم، تأسيسًا على القاعدة القرآنية الشهيرة {وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولًا}.
ذات يوم، خطبت في جامع الزهراء، وتحدثت عن أهل الفترة، وأخذتني الشجاعة؛ فقلت: إن أهل الفترة ليسوا فقط بنو عدنان وقحطان في الجاهلية، بل إن هناك آلافًا من الناس اليوم يعيشون في غابات الأمازون ومجاهل أفريقيا وأستراليا، خارج التاريخ والحضارة، وهم من أهل الفترة، ولا يجوز أن نصفهم بـ “الكافرين”.
حضر الخطبةَ المفكرُ الإسلامي جودت سعيد، وبعد الخطبة تحدث للناس، وقال: إن محمد حبش يقول: إن في غابات الأمازون ومجاهل أفريقيا قومًا من أهل الفترة لم يبلغهم الإسلام على وجه صحيح تقوم به الحجة! ثم التفت إلي، وقال مؤكدًا: “يا صاحبي، إن في لندن وباريس واليابان والصين.. بل في بلدك هذا وبلاد المسلمين ملايين لم يبلغهم الإسلام، على وجهٍ تقوم به عليهم الحجة والبرهان”.
أين هو الإسلام الذي قامت الحجة على وجوب اتباعه! وهل واقع المسلمين اليوم يمكن أن يقنع أحدًا بالإسلام! كيف سيتحول الناس عن أديانهم إلى الإسلام، ونحن أمة فاشلة متحاربة متباغضة، لقد أصبحنا من دون شك فتنةً للذين كفروا، وصار سلوكنا وجهلنا وتحاربنا يصدّ الناس عن سبيل الله!
لقد كان الدين موجودًا في جزيرة العرب، وكانت “صحف إبراهيم وموسى” يعرفها أهل العلم، وكانت التوراة “فيها هدى ونور” على ألسنة علماء أهل الكتاب، وكان الإنجيل “بشرى وموعظة للمتقين” يعلمه الذين يستنبطونه منه، {أولم يكن لهم آيةً أن يعلمه علماء بني إسرائيل}، ومع ذلك كله؛ لم تقم لله حجة على الناس، حيث لم يكن هناك مجتمع راشد يطبق هذه القيم، ويرى فيه الناس صورة ملزمة لهم بالدخول فيه، وترك ما يعتقدون، وفي هذا السياق اعتبرت الفترة بين الرسل سببًا كافيًا وكاملًا لقبول الناس والتوقف عن دفعهم لاعتناق الدين الحق.
الفترة مستمرة حتى قيام واقع إسلامي راشد، يحقق للناس نجاح الدنيا وسعادة الآخرة، والفترة مستمرة حتى ينهض فينا “محمدٌ” جديد يحقق للناس الكرامة والعدالة والمساواة، ويحرر العبيد والسبايا ويكرم المرأة ويمكّنها، ويزيح الاستبداد والقهر والظلم، حتى تصبح عواصم الإسلام هي محج الهاربين من الظلم والقهر في العالم، وتصبح العافية والكفاية والتكافل والتراحم هي صورة بلاد المسلمين، لا يجوع فيها جائع، ولا يهيم فيها ضائع، وليس فيها أحدٌ يبيت في داره شبعان وجاره إلى جنبه جائع، وهو يعلم.
وطالما ما زالت في الناس الفطرة، وطالما أن ظروف الإسلام هي ظروف أهل الفترة؛ فإن قيم الإيمان تدعونا إلى إخاء الأديان ومحبة الأبرار والأخيار في العالم، ورفض الأشرار من كل ملة ودين.
مقال محمد الحمامصي في جريدة العرب عن الكتاب:
حان الوقت لينفض أتباع الأديان السماوية عنهم وهْمَ أنهم شعب الله المختار
محمد حبش: “إخاء الأديان” يلامس روح الأخوة الإنسانية دون أن يخوض في دعوات التوحيد
هل تبدو فكرة الإخاء بين الأديان حلماً خيالياً غير واقعي؟ وهل نحن ننفرد فيه ونخرج به دون بقية الديانات، أم أنّ هناك من يؤيّدنا في هذا التوجه؟ وهل لهذه الدعوة ظهير في الشريعة الإسلامية من نصوصها وفقهائها؟ وهل هناك في الأديان الأخرى من يعبأ بمثل هذه الدعوة، ويرى فيها مبادرة إيجابية للإخاء والتراحم في الأرض؟ وهل تشهد المجتمعات المتحضّرة ونخبها الفكرية إصلاحاً حقيقياً في الإخاء مع الآخر الديني؟
القاهرة حاول الباحث الإسلامي السوري محمد حبش الإجابة عن جملة من الأسئلة المتعلقة بالإخاء بين الأديان بوصفها الوسيلة المثالية والطريق السالك إلى الإخاء بين الإنسان بغض النظر عن أصوله وتاريخه ولونه وعرقه.
وأطلق الدكتور حبش المتخصص في الشريعة ودراسات الأديان مشروعاً لافتاً في الفكر الإسلامي تحت عنوان إخاء الأديان وكرامة الإنسان، يلامس عميق الأخوة الإنسانية دون أن يخوض في دعوات توحيد الأديان وإنتاج ديانات جديدة.
ويرى حبش في كتابه “إخاء الإنسان” أن إخاء الأديان يثير مشاعر متناقضة لدى أتباع الديانات، فرغم القبول النفسي للعنوان واعتباره من أهداف الدين فإنّه يصطدم بنصوص قطعية في معظم الديانات التي تعتبر الخلاص شأن الديانة الناجية وحدها، وأنّ مسؤولية أبناء الديانة هي دعوة معتنقي الأديان الأخرى للتخلي عن معتقداتهم والدخول في الديانة الحق بهدف بلوغ النعيم السماوي الخالد، الجنّة أو الفردوس أو النيرفانا أو الظهور الجديد، وفق ما تكرّسه الأديان من ثقافة وتقاليد.
وأشار في كتابه الصادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود إلى أنه من المدهش أنّ المجتمعات الإنسانية، ومنها معظم الدول الإسلامية، باتت تمارس قدراً كبيراً من الإخاء الديني، في إطار المعاملات والتواصل المجتمعي، وبشكل خاص في الدول الديمقراطية التي باتت قوانينها تفرض سلوكيات كثيرة من قبول الآخر واحترامه ومودته، وهدّمت حواجز كثيرة من التمييز والاتهام، ولكنّها ترتدّ في لحظة النصّ إلى الحوارات العقيمة التي تجعل من الآخر دوماً شيطاناً ضالاً مصيره الشقاء والخذلان، تضيق به رحمة الخالق، وينال أشدَّ العقاب على ضلاله وإصراره، وهذا مدلول النصوص الظاهرة في الأديان الإبراهيمية بشكل خاص، ومن المؤكد أنّ هذا التفكير موجود بشكل أقل في الديانات الفيدية “الهندوسية والبوذية”، ولكنّه غير موجود في الأديان الفلكلورية الصينية واليابانية.
لا شك في أنّ المسألة لا تتوقف عند الجانب اللاهوتي، بل هو أيسر المسائل، فهي تتعداه باستمرار إلى الشقاق الاجتماعي، وتبادل الريب والاتهام، وتحقير الذات الإنسانية، فمن كان عند الخالق حقيراً مرذولاً لن يكون عند عباده في حال أفضل، وسيتنامى شعور الكراهية بشكل مطّرد من الأيديولوجيا إلى السوسيولوجيا، ومن ثم فإنّنا لن نكون أبداً أمام مجتمع مستقر أو متراحم، بل سنجد أنفسنا أمام ركام من البغضاء قد تزيّنه بعض الممارسات، ولكنّه يرتدّ في لحظة الاصطفاف إلى جحيم الكراهية ونار البغضاء.
ولاحظ حبش أن الإنسان أمضى قروناً طويلة ينظر بعين الريبة والحذر لأخيه الإنسان ويبادله اتهاماً بعد آخر، وانطبعت قصّة قابيل وهابيل مصدر إلهام للصراع الأبدي في الأرض، ووجدت الصراعات والحروب المدمّرة تبريراً أخلاقياً، وتمّ تكريس عدد من المجرمين أبطالاً ملهمين في التاريخ، وبات المثاليون اليوتوبيون مساكين حالمين، يرثي لهم الواقع الصاخب الذي ترسمه سياسات التسابق على الثروة والقوّة والنفوذ. ومن المؤلم أنّ هذا الصراع انعكس أيضاً على جدل أتباع الأديان الذي بدا تسخيفاً وتشكيكاً، ثم صار تحقيراً ولعناً وتكفيراً، ثم تحوّل إلى حروب ضارية. ووجدت هذه الحروب، باستمرار، تبريراً أخلاقياً على الرغم ممّا فيها من ممارسات التوحّش البهيمية، ووجدت للأسف من بات يطلق عليها الحروب المقدّسة، ويكرّس أبطالها ومجرميها رموز التضحية والفداء.
وأكد الباحث السوري أن كتابه يسعى إلى معالجة هذه المسألة وفق قراءة جديدة للنصوص الدينيّة، والتوفيق بين الديني والاجتماعي والفلسفي، ويعمد إلى استقراء النصوص الدينية الأساسية التي تتبنّى فكرة ضلال الآخر وخسرانه، ويحاول بناء وعي جديد قائم على ثقافة احترام الآخر اعتقاداً وديانة ومذهباً، ويجتهد في التماس أجمل ما في الأديان، ويتبنّى تشجيع الديانات على الإخاء والتراحم فيما بينها ونزع أسباب التمييز والكراهية.
ولفت إلى أن كتابه يتجه أيضا إلى أفق آخر، حيث يبحر في الجوانب المشرقة من الاعتقاد الديني لدى كلّ ديانة وطائفة، ويهدف إلى بسط الأعذار لدى المخالفين لفهم روح الطقس الذي تمارسه هذه الديانات، وبيان أنّها تتجه إلى أهداف نبيلة. وهكذا فإنّه يحاول أن يقدّم للمكتبة العربية رؤية مختلفة لجدل الديانات، حيث يتخيّر من النبوّات والفلسفة والحكمة رائع المحاولات التي انطلقت من إيمان الإنسان بالإنسان، ويرصد أرق ما امتلكه الإنسان من مشاعر وأعمق ما نظر إليه بعين القداسة، لبناء عالم جديد يتأسس على المحبّة والعرفان.
ويقول حبش إن الفكرة تتأسس على أنّ هناك مكاناً يظهر أجود ما في الإنسان، ويكشف عن الجانب النبيل من إنسانيته، وهو في الغالب في قدسه الروحي الذي تحمله الأديان، تأسيساً على الحكمة والإرادة والنبل في مقاصد الخالق العظيم، وإيماناً بالإنسان الذي مارس تقديس هذه القيم بوعيه الجمعي، ممّا يؤكد وجود الجانب النبيل في تلك القيم المستقرة جيلاً بعد جيل وأمّة بعد أمّة.
واعتبر أن كتابه لا يهدف إلى تكريس قطيعة معرفية ومجتمعية مع اللادينيّين، فهدفه هو الإخاء الإنساني، والغاية الإنسان وليست الأديان، وإنّما كرّس الحديث عن إخاء الأديان لمعنيَيْن اثنيْن، الأول: أنّ الأديان لا تزال تشكّل الوعي الجمعي لغالبية سكان الأرض، وهي مسؤولة أخلاقياً عن نشر المحبّة ومواجهة الكراهية.
والثاني: أنّ ثقافة الكراهية والتدابر تنشأ في الغالب من مجتمعات الأديان، وتُبنى على أساس ديني، وبات من الواجب مواجهة هذه الخطايا باعتماد هدي النبوات، وإظهار الجانب الإيجابي والإنساني من ثقافة الأديان. ومن المؤكد أنّ للإنسان بغض النظر عن أي انتماء ديني مساحة في أعماقه للتأمل والروح. وقد نجح الفلاسفة في إيقاظ هذه المشاعر النبيلة عبر حديثهم عن الإشراق والفيض والتأمل، كما نجحت الموسيقى والشعر في إحياء هذه الروح النقية في الإنسان، وباتت هذه المشاعر رصيداً مشتركاً من الصفاء والطهر بين سائر الأبرار في هذا الكوكب، وأصبحت هذه القيم ظهيراً للقيم الدينيّة في دعم الإخاء الإنساني، وهي شريك طبيعي لكلّ جهود إخاء الديانات.
مواجهة احتكار الخلاص
أولى حبش اهتماماً مباشراً بالتأسيس لفكرة إخاء الأديان في الوعي الإسلامي، ومواجهة السائد في تفكير الرواة من وجوب البغض في الله، وافتراض الصراع بين الأديان صراعاً وجوديا لا يحتمل أي صيغة وفاقية، وأنّ إرادة الله قاضية أن تتصارع الأديان والأيديولوجيات إلى النهاية وأنّ البقاء للأقوى ومصير الآخرين الاندثار.
وقال إنّ “ثقافة الكراهية لم تقف عند حدود المختلف في الدين، بل دخلت أيضاً إلى المختلف في المذهب، واتخذت شكلاً أشد ضراوة وعنفاً.. إنّ أكثر من عشر حروب حقيقية في الشرق الأوسط قامت في العقود القريبة على أساس طائفي، أو كان البعد المذهبي جزءاً رئيساً في إيقاظ نوازع الحرب وتبرير الكراهية. وتمضي عقيدة احتكار الخلاص إلى الغاية في نصّ مشهور: افترقت اليهود إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى اثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقة كلّها في النار إلّا واحدة. ورغم الجهود التأويلية الكثيرة التي قدّمها الفقهاء، وكذلك الجهود النقدية التي قدّمها الرواة، ظلت هذه الروايات أهم دوافع الإقصاء والكراهية”.
وأضاف “نشأت تيارات كثيرة تتبنّى البغض في الله بين التيارات المنقسمة، سُنّة وشيعة وصوفية وسلفيّة وظاهرية ومؤوّلة وإسلاميّين وعلمانيّين”.
وتوقف حبش أيضا باهتمام أمام الجهود الكبيرة التي بذلها الإصلاحيّون المسيحيون لمواجهة احتكار الخلاص، ويستعرض بشكل خاص فلاسفة عصر الأنوار، وكذلك فلاسفة الدين الطبيعي والإصلاح الديني، ويرصد التطورات الإيجابية التي تحققت على مستوى المؤسسات المسيحية الرسمية، والتي توّجت خاصة بتوقيع وثيقة الأخوّة الإنسانيّة بين البابا وشيخ الأزهر.
وتساءل “هل الأديان مشكلة أم حلّ؟”، وتابع أن “إخاء الأديان الذي نسعى إليه غير ممكن في القراءات اللاهوتية السائدة على الأقل على مستوى الديانات السماوية، وبشكل أقل الديانات الدارمية والفلكلورية، حيث يلتزم لاهوت هذه الديانات بشكل صارم برفض الاعتراف بالأديان الأخرى، وفي هذه النقطة فإنّ استحضار مواقف متطرّفة لرجال الدين أمر سهل، أولئك الذين يبررون باسم الرب نسف كل جهودنا واعتبارها هرطقة وانحرافاً، ومن عجيب ما واجهت أنّ عدداً من المتشدّدين الإسلاميين باتوا يذكرون بإعجاب مواقف المتشددين في الديانات الأخرى، على الرغم من قسوتها وشدّتها على كلّ مسلم، وذلك باعتبارهم صادقين وصريحين ومنسجمين مع عقائدهم، بخلاف دعاة التقريب والإخاء الذين يتم وصفهم دوماً بالمنافقين المتلوّنين!”.
وواصل موضحا “في هذا السياق فإنّ الأديان هي جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل، وهذا ما يرثي لنا فيه دوماً التيار العلماني المتشدد الذي يرى أنّ الحل في قطيعة كاملة مع الدين، والاعتراف الصريح بأنّه لم يعد صالحاً للمجتمعات الحديثة وأنّ مكانه دراسات التراث البائد. ويتعين هنا عدم التعميم، فهذا موقف فريق متشدد من العلمانيين، ولكن التيار الغالب في العلمانية هو تيار يفصل بين الدين والدولة، ولا يرفض وجود الدين وما ينهض به من أدوار نفسية واجتماعية انطلاقاً من ذات الفرد”.
المساواة بين الأديان
ثقافة الكراهية لم تقف عند حدود المختلف في الدين، بل دخلت أيضاً إلى المختلف في المذهب، واتخذت شكلاً أشد ضراوة
ولفت حبش إلى أنّ رجال الدين في كل الأديان في الغالب لا ينظرون بودّية لهذه الجهود، ويرتابون فيها لأنّها قائمة على تفكيك التفسير الحرفي للدين، والنهوض بتفسير مقاصدي سيكون من نتيجته بطبيعة الحال دور أقل لرجال الدين ودور أكبر للعقل وشروط المجتمع، وهو ما يرونه عملية مبرمجة ضد المؤسسات والطقوس والممارسات الشعائرية التي يقودها رجال الدين. وبذلك فإنّه يمكن القول إنّ رجال الدين عموماً لن يرحّبوا بمثل هذا الخطاب، وسيمارسون في الغالب دوراً رافضاً للإخاء الديني وربما سيقبلون إلى حد ما نوعاً من الإخاء البروتوكولي المتمثل في اللقاءات الاستعراضية التي يعقبها عادة تقديم المعاذير والتبرير للجمهور، وتأويل ما جرى بأنه لمصلحة الدعوة وتآلف الناس لإدخالهم في الدين الحق.
وشدد حبش على أنّ الاعتقاد بمساواة الأديان وإمكان تعايشها وتبادل الاحترام فيها وتكاملها وتضامنها أمر حيوي وممكن ولا يشكل تحدياً لأي دين، وحتى إن تناقضت الفكرة مع بعض النصوص المقدسة، فإنها تتطابق تماماً مع نصوص أخرى كثيرة.
وقال “إنني لا أقدم العالم للمسلم على أنّه جمعية خيرية، ولكنه ليس بالضرورة وكر ذئاب، وأن العالم يفكر كما نفكر ففي كل أمة متعصبون ومتسامحون، واتجاه لاهوتي صارم واتجاه إنساني متسامح، وأن التاريخ الإسلامي طافح بالأسماء الكبيرة التي تبنت الدعوة إلى إخاء الأديان، وناضلت في سبيل هذه الغاية النبيلة”.
وخلص الباحث السوري إلى التأكيد على “أن كل الديانات خاضت حواراً كهذا، وأن الكهنة كانوا يقفون باستمرار ضد التوجه التكاملي مع الآخرين، ويفضلون التأكيد على احتكار الحقيقة واحتكار الخلاص، ولكن رجال الفكر والحكمة لم يتوقفوا في كل الأديان عن المواجهة مع التيارات المتشددة، وقد باتت جهودهم مثمرة وناجحة، وأصبح التيار المؤمن بالإخاء الإنساني في سائر الأديان أكبر من التيار المطالب بالانعزال والعكوف على ثقافة القدماء واختياراتهم”، مشيرا إلى أن الإسلام مؤهل لأن يكون رائداً في ثقافة إخاء الأديان وكرامة الإنسان، فنصوصه طافحة بهذه الحقائق، ومنهجه التربوي طافح برفض الآبائية والورائية، وهو يؤكد باستمرار على البحث في المستقبل. وحين استعراض الماضي بكل تلويناته، من تاريخ وتراث وثقافة، وما ارتبط به من نزاع وحروب وكذلك من نصوص وردت في ظروف مختلفة تمنع الإخاء الإنساني وتحول دون اللقاء والإخاء بين أهل الأديان، فإن المنهاج القرآني أصيل وواضح وقد تكرر في صفحة واحدة مرتين “تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ” (البَقَرَة 134).
واعتبر حبش أن الوقت حان لينفض المسلم وكذلك المسيحي واليهودي وهْم أنهم شعب الله المختار، وحان الوقت ليدخل الجميع إلى عقد جديد يؤمن فيه الجميع بالدين قوة روحية طامية، ونوراً يشرق به الله في قلب ابن آدم، والنور لا يطفئ النور، والعافية لا تشاقق العافية، والأمل لا يصادم الأمل، إنها قيم تتراكم في انبثاقها من الذات الإلهية التي يقدمها القرآن الكريم كما يقدمها الإنجيل الكريم، كما تقدمها كتب الحكمة في سائر العصور.
مقال الدكتور محمد حبش عن كتاب إخاء الأديان في الناس نيوز
لا أدري إن كان من الواقعي ان أبادر للكتابة عن كتابي بقلمي، أسابق الغبطة والزهو، فالكتاب الجديد لكاتبه كالمولود الجديد، وقد جرت العادة أن ينجز الكاتب كتاباً ويتولى النقاد التعريف به وتقويمه ونقده، ولكنني أجد نفسي مندفعاً للكتابة في كتابي الجديد، أسابق القلم خاصة انني أعتبره رسالتي التي كرست حياتي لها في إخاء الأديان وكرامة الإنسان وقد صدر أخيراً عن دار مؤمنون بلا حدود الواسعة الانتشار.
وأجد نفسي في الكتاب وقد استوفيت ما أريد قوله، فقد أرهقني تقديم المعاذير وإرضاء الناس، وليس في الدنيا فضيلة أولى من الصدق والوضوح، بعيداً عن زخارف المجاملات، فالعالم لم يعد يقبل خطاباً بوجهين ولسانين، وصار من الواجب حسم المسائل، وأن لا تأخذك في الحق لومة لائم.
ومع أن عنوان الإخاء الديني يحظى بالقبول النفسي لدى المؤمن عموماً ولكنه يصطدم، بلا شكّ، بنصوص قطعية في معظم الديانات، التي تعتبر الخلاص شأن الديانة الناجية وحدها، وأنّ مسؤولية أبناء الديانة هي دعوة الأديان الأخرى للتخلي عن معتقداتهم والدخول في الديانة الحق، بهدف بلوغ النعيم السماوي الخالد، الجنّة أو الفردوس أو النيرفانا أو الظهور الجديد، وفق ما تكرّسه الأديان من ثقافة وتقاليد.
ومع أنّ المجتمعات الإنسانية، ومنها معظم الدول الإسلامية، باتت تمارس قدراً كبيراً من الإخاء الديني، في إطار المعاملات والتواصل المجتمعي، ولكنّها ترتدّ في لحظة النصّ إلى الحوارات العقيمة التي تجعل من الآخر دوماً شيطاناً ضالاً مصيره الشقاء والخذلان، تضيق به رحمة الخالق، وينال أشدَّ العقاب على ضلاله وإصراره، وهذا مدلول النصوص الظاهرة في الأديان الإبراهيمية بشكل خاص، ومن المؤكد أنّ هذا التفكير موجود بشكل أقل في الديانات الفيدية (الهندوسية والبوذية) ولكنّه غير موجود في الأديان الفولوكلورية الصينية واليابانية.
ولا شك في أنّ المسألة لا تتوقف عند الجانب اللاهوتي، بل هو أيسر المسائل، فهي تتعداه باستمرار إلى الشقاق الاجتماعي، وتبادل الريب والاتهام، وتحقير الذات الإنسانية، فمن كان عند الخالق حقيراً مرذولاً لن يكون عند عباده في حال أفضل، وسيتنامى شعور الكراهية بشكل مطّرد من الإيديولوجيا إلى السوسيولوجيا، ومن ثم فإنّنا لن نكون أبداً أمام مجتمع مستقر أو متراحم، بل سنجد أنفسنا أمام ركام من البغضاء قد تزيّنه بعض الممارسات، ولكنّه يرتدّ في لحظة الاصطفاف إلى جحيم الكراهية ونار البغضاء.
لقد أمضى الإنسان قروناً طويلة ينظر بعين الريبة والحذر لأخيه الإنسان ويبادله اتهاماً بعد آخر، وانطبعت قصّة قابيل وهابيل مصدر إلهام للصراع الأبدي في الأرض، ووجدت الصراعات والحروب المدمّرة تبريراً أخلاقياً، وتمّ تكريس المجرمين أبطالاً ملهمين في التاريخ، ومن المؤلم أنّ هذا الصراع انعكس أيضاً على جدل أتباع الأديان الذي بدا تسخيفاً وتشكيكاً، ثم صار تحقيراً ولعناً وتكفيراً، ثم تحوّل إلى حروب ضارية، ووجدت هذه الحروب، باستمرار، تبريراً أخلاقياً على الرغم ممّا فيها من ممارسات التوحّش البهيمية، ووجدت للأسف من بات يطلق عليها الحروب المقدّسة، ويُكرّس أبطالها ومجرموها رموز التضحية والفداء، ويطالب بتكرار أعمالهم المجيدة، بل إنّ العقود الأخيرة قدّمت نماذج تطبيقيّة مرعبة أذهلت العالم كلّه.
وتسعى هذه الدراسة إلى معالجة هذه المسألة وفق قراءة جديدة للنصوص الدينيّة، والتوفيق بين الديني والاجتماعي والفلسفي، وتعمد إلى استقراء النصوص الدينية الأساسية التي تتبنّى فكرة ضلال الآخر وخسرانه، وتحاول بناء وعي جديد قائم على ثقافة احترام الآخر اعتقاداً وديانة ومذهباً، وتجتهد أن تلتمس أجمل ما في الأديان، وتتبنّى تشجيع الديانات على الإخاء والتراحم فيما بينها، ونزع أسباب التمييز والكراهية.
وهكذا فإنّ هذه الدراسة تحاول أن تقدّم للمكتبة العربية رؤية مختلفة لجدل الديانات، حيث تتخيّر من النبوّات والفلسفة والحكمة رائع المحاولات التي انطلقت من إيمان الإنسان بالإنسان، وترصد أرق ما امتلكه الإنسان من مشاعر وأعمق ما نظر إليه بعين القداسة، لبناء عالم جديد يتأسس على المحبّة والعرفان.
وتتأسس الفكرة على أنّ هناك مكاناً يظهر أجود ما في الإنسان، ويكشف عن الجانب النبيل من إنسانيته، وهو في الغالب في قدسه الروحي الذي تحمله الأديان، تأسيساً على الحكمة والإرادة والنبل في مقاصد الخالق العظيم، وإيماناً بالإنسان الذي مارس تقديس هذه القيم بوعيه الجمعي، ممّا يؤكد وجود الجانب النبيل في تلك القيم المستقرة جيلاً بعد جيل، وأمّة بعد أمّة.
ويقدم الكتاب مجموعة من المفاجآت غير المتوقعة، فمع أن السائد ان فكرة مساواة الأديان وإخائها مرفوضة بالمطلق لدى رجال الدين في معظم الأديان وخاصة الإسلام والمسيحية ولكن الدراسة تحشد سيلاً من النصوص الشرعية الأسياسية في القرآن والسنة تعزز بشكل مباشر منطق إخاء الأديان، وتستخدم الدراسة كذلك وسائل الفقه الإسلامي في الاستحسان والاستصلاح والعرف والذرائع للوصول إلى أفق مجيد من إخاء الإديان، كما يستعرض مئات المواقف الشجاعة لقادة ومفكرين مسلمين ومسيحيين على مستوى عال من المصداقية والقبول تحدثوا بوضوح وشجاعة عن إخاء الأديان، واستطاعوا أن يؤسسوا للمذهب الإنساني العابر للأديان والطوائف والأوطان، ونادوا بصراحة وشجاعة برفض احتار الخلاص واحتكار الله واحتكار الحقيقة.
ثم تطوف الدراسة بالأديان كلها فتستنطق في نصوصها التأسيسية نداءات مدهشة للمساواة بين الأديان ووجوب وقف جهود الكراهية والتبشير القائم على تزييف الآخر وتحقيره، وتصل إلى نخبة من القادة الدينيين في كل ديانة نادوا بإخلاص نحو إخاء الأديان وكرامة الإنسان.
ثم تخصص الدراسة فصلاً خاصاً نستعرض فيه جهود فلاسفة عصر الأنوار لهدم فكرة احتكار الحقيقة التي قامت عليها إمبراطورية الكنيسة خلال العصور الوسطى، وتربط بين جهودهم النبيلة المعززة بالعلم والفلسفة وبين جهود الحكماء في كل دين نحو وقف احتكار الخلاص والجنة والله، وتؤسس لعيش مشترك قائم على احترام كل أشكال الإيمان.
لقد أردت أن أقول بوضوح: ليس إخاء الأديان محض طموح طائش يحمله أفراد مغامرون مسكونون بالمذهب الإنساني، بل إن التاريخ طافح بالرجال الكبار الذين أسسوا لهذا الوعي، وهو يصنفهم في التاريخ الإسلامي في خمسة أصناف: فلاسفة الإسلام وحكمائه، وأئمة الصوفية، وفقهاء الإخاء الإنساني، وفقهاء اللجان التشريعية في برلمانات الدول الإسلامية الذين نجحوا في 52 دولة منها على تضمين الدستور نفسه مواد المساواة والحرية والمواطنة، ونصوا بوضوح على بناء أعلى مستوى من إخاء الأديان بين الإنسان والإنسان.
أرجو أنني لم أكن ضيفاً ثقيلاً عليكم إذ حملتكم على قراءة كتابي الجديد، ولكنني أكتب ذلك وأنا على غاية اليقين بأننا نعيش آخر عصور التعصب الديني، وأن الإنسانية ماضية على إعلان دين بين الأديان وليس ديناً فوق الأديان، وأمة بين الأمم وليس أمة فوق الأمم، أو كما عبر الرسول الكريم نفسه: (لا تخيروني على الأنبياء) نبي بين الأنبياء وليس نبياً فوق الأنبياء.
مقال الدكتور محمد حبش في كلنا شركاء عن كتاب إخاء الأديان
سواء قبلنا المصدر السماوي للدين أو لم نقبله فإن من المؤكد أن الدين يمثل جانب الفضائل في الإنسان أو هو الأنا العليا وفق سيجموند فرويد والكارما وفق كونفوشيوس والنيرفانا عند بوذا وهو المواد فوق الدستورية عند أهل القانون وهو الضمير عند الماديين، وهو مركز القيم العليا التي يتبناها الانسان عندما يكون تائقاً للفضيلة والأخلاق الحميدة والإحسان إلى الناس.
وعلى الرغم من أن الدعوات إلى الإلحاد قد بدأت منذ عهد بعيد وانتطمت حركات وأحزاباً ونشاطات مختلفة فإنها لم تصبح قوة حقيقية في العالم ولا زال الدين يتفوق عليها بشكل لا يقدر عدداً وجمهورا وتأثيراً، ويمكن القول دون أدنى مبالغة إن ثمانين بالمائة من سكان هذا الكوكب موقنون بأن الفضائل والقيم العليا موجودة في دين ما وأن عليهم أن يتبعوه لينالوا سعادة الدنيا وخلاص العالم الآخر.
وفي هذا السياق يجب أن تكون الفضائل الدينية متحدة ومتقاربة، وذلك تأسيساً على وحدة الهدف الذي تسعى إليه ووحدة النوايا الطيبة التي تحمل قادة هذه الأديان على كتابة أفكارهم ونواياهم.
ولكن الواقع خلاف ذلك، ولا تبدو الأديان في وضع يحملنا على الاعتقاد أنها أداة تقارب إنساني ووفاق محتمعي، ولعل العقيدة الدينية كانت سببا في اندلاع عشرات الحروب في التاريخ ولا تزال، حتى قال أبو العلاء: ان الديانات ألقت بيننا إحناً ولقتننا أفانين العداوات.
هل بات الدين ظاهرة شتات وشقاق، وهل بات الخلاص من الأديان هو سياق الحضارة الحديثة التي تبني قيمها على نور العقل ومرجعية القانون؟
لا خلاف أن رجال الدين في الأديان كافة يملكون شعور احتكار الحقيقة ويتحدثون عن الآخر على أنه في ضلال مبين، ومهما شاركوا في لقاءات وحوارات فسوف يعودون إلى قواعدهم يحملون الأسى والحسرة لإمعان الناس في الكفر، ولن يغير من حزنهم إلا فلاحهم في تغيير دين حائر جديد.
وهذا اللون من الأنانية وقع فيه رجال الأديان كافة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ثلاثة أنماط من رجال الدين مارسوا ذلك ورد عليهم بخطاب مباشر وواضح، كان ينبغي أن لا يترك أي وهم في رفض الإسلام لنظرية احتكارالخلاص، ولكنه للأسف تم تأويله عن ظاهره، في غمار ما تأوله المفسرون لموافقة العقيدة الطحاوية والواسطية.
في القرآن الكريم: “وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى.. تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين” وفي الآية تقريع شديد على هذه المزاعم ووصفها بالأماني الفارغة.
ولكن بعد قليل ظن بعض المسلمين أن الأمر لا يعنيهم ولم يفهموا ذلك في سياق سنني، وحسبوه موقفا منحازا لدينهم دون الآخرين، فقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان مسلماً… وهنا نزل على الفور قول الله تعالى: “ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سؤءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا”
ثم جاء مزيد من التوضيح على بيان الآية فقال تعالى: “ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيراً”… ثم جاء الثناء على أهل الأديان كافة في صيغة جامعة تشمل كل الأديان الابراهيمية وهي قوله: “ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلاً”
ليس المقام هنا بالطبع للكلام في اللاهوت، ولكنني بالفعل بت أشعر أن أكبر أمراضنا في رفض الآخر وتسفيه اعتقاده وتفكيره منشؤه غياب نصوص دينية مباشرة في التسامح وإبراز نصوص قرآنية أخرى تتصل بالحرب ولها ظروف بالغة الاختلاف عن هذا، كالآية: وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة، وهذا موقف حرب واشتباك، ومن الخطأ تماما تعميمه في إطار العلاقات مع الآخرين.
نحاول اليوم أن نصرخ في برية العقل أن نتوقف عن عقدة الاستعلاء الديني، وأن الناس ينتمون إلى أديانهم بحكم الميلاد في المقام الأول فالمسلم هو من ولد من ابوين مسلمين والنصراني كذلك واليهودي والبوذي والهندوكي كذلك، ولا يشذ عن هذه القاعدة في الواقع الذي نعيشه إلا 0.001 بالمائة من الناس، وهي نسبة الذين يغيرون أديانهم بعد الميلاد وهذا أمر تتفق عليه الاحصاءات بلا نكير، ومن المستحيل أن تكون أحكام الله عقلاً تخص هؤلاء، وأن تكون رسالته في الأرض لهذا العدد المحدود من الناس فيما يكون الآخرون في أصحاب السعير.
وحتى لا نتهم بالمبالغة فقد أورد الرواة حديثاً رقميا دقيقا لتصورات الناجين والهالكين يوم القيامة وفيه يقول الله تعالى يا آدم أخرج بعث النار فيقول يا رب ومن بعث النار؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون!!
ومن المؤسف ان هذا النص يعتبره الرواة قوي الإسناد، وقد روي في عدد من كتب الصحاح.
إن عقيدة الفرقة الناجية لمن بات يعرف حجم العالم وخريطته الديموغرافية هي موقف يتضمن سوء ظن رهيب بالخالق الذي لم تفلح رسالاته وأنبياؤه في نقل الناس من الضلال الى الهدى ومن الظلمات الى النور، وأن رسالات أنبيائه المتعاقبة باءت بالإخفاق، واستمر الناس يتوارثون أديانهم ومذاهبهم، وكيف سيكون اعتقاد المؤمن حين ينطلق من مسلمة رقمية حاسمة أن 999 بالألف من الناس هم أهل جهنم ويستحقون العذاب الخالد!!
بكل تأكيد فما أرويه هنا عن الثقافة الاسلامية له ما يشبهه ويزيد عليه في كل ثقافات الأديان، التي يعتقد أتباعها دوماً أنهم أهل الله وأحباؤه وأن الله اصطفاهم على العالمين.
ومع ذلك فإن القادة الدينيين يتعاملون باستمرار مع هذه نصوص اختكار الخلاص بطرق تأويلية مرنة تترك مكاناً للتعايش والتواد، ولولا ذلك لاشتعل العالم كله ساحات حرب حمراء لا تبقي ولا تذر.
شخصياً أعتقد ان من أبرز واجبات القادة الدينيين العمل على إبراز جمال الديانات ونشر أروع ما فيها ليدرك المؤمن في كل دين أن العالم مليء بالحكمة والخير والنور وأن الإنسان في كل مكان في العالم هو فيض الله وصدوره وروحه وإشراقه وخيره، وأن أخوة الإيمان تتسع لتشمل كل من يؤمن بالخالق ويحب خلقه في أي دين وفي أي ملة.
إنها حقيقة شرحها القرآن الكريم في نص مدهش واضح لا يحتاج أي تأويل: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا وجوهكم فثم وجه الله إن الله واسع عليم.
تحميل كتاب مختصر إخاء الأديان PDF رابط مباشر PDF