تنزيل نظرية التأويل التقابلي كاتب مغربي باحث في مجال التأويل وتحليل الخطاب .يُقَدِّم هذا الكتاب _ تتميما لمقترحاتنا السابقة _ طرحا موسعا في مجال العلم بتقابلات النصوص وتأويلاتها، وهو يقوم على التقابلات الكونية، والكون البليغ، والخطاب البليغ، ثم التأويل البليغ تبعا لهذا وذاك.كُلُّ من ينطلق من الأُسِّ المعنوي المتخفي في البنيات العميقة، يجد له صورة في البنيات الظاهرة للخطاب. أداة الباحث لبلوغ مسعاه العلوم الآلية والجهد الشخصي والمغامرة الدلالية، لكنه قد لا يُوفَّق دائما في الظفر بِبُغيته؛فالمعنى قد يُؤَرِّقُه ولا يورِقُ له؛ المؤَوِّل مِثْلُ الباحث عن الحفريات، فهو يتتبع المؤشرات الظاهرية لمعاني الحياة التي كانت، والكائنات التي تلاشت أو تركت علامات. هذا الباحث قادر – تبعا لما يمده به العلم – أن يُكْمِل صورة الموجود، ويَلُمَّ شتات ما تفرق في الظواهر، لأنه يعرف أصلا أن الكائن الأثري، إما أن يكون تاما محافظا على صورته الأصلية، وتلك درجة الكمال، أو يُعثَر عليه ناقصا وفي حاجة إلى تكميل، وتلك هي وظيفة الباحث على المعنى: افتراض الوجود، واستكشاف الوجود، واستكمال صورة الموجود، ثم الإعلام بالوجود، وتعميم فائدة الموجود، وبناء المعنى الدال على الوجود انطلاقا من الكائن المفقود. العالِم الأثري يستكشف العالَم المادي بحثا عن معاني الحياة التي كانت وصُوَرِها، والمؤَوِّل يستكشف النصوص مستطلعا المعاني التي كانت، والتي لها امتداد في حياة الناس وآثارٌ في تشكل الخطابات، وإغناء ذخائر التأليف والكتابة، والمساهمة في تكثير المعنى، وجعل التواصل بين الناس خصبا، ثريا، متجددا، ومُعبِّرا عن حاجيات الإنسان واهتماماته الحالية؛ فالمعنى موجود بالقوة في اللغة، وفي إمكانيات التركيب والنَّظْم، وهو مثل النار في الحجر لا تنقدح حتى يقدحها قادح.
إن النظر إلى قضايا المعنى من هذا الأفق المعرفي يجعله أمرا ذاتيا، أي بعضا من اهتمامات كل شخص، لكنه يصبح عملة رائجة ونفيسة، يُحتفى بها حيث كانت، ويُبحَث عنها مثلما يُبحث عن المال، فيصبح ذلك همّا يوميا، وانشغالا حاضرا في جميع المقامات. وقد كان هذا حاصلا في الشعر القديم والخطابة والمناظرة، عندما كان معنى البيت الواحد، مثلا، يساوي هدايا نفيسة، ومالا وفيرا، ومركزا اجتماعيا وثقافيا بارزا.
كان ثراء المعنى مقابلا للاغتناء الاجتماعي ونيل الحظوة بين الناس، وكان الشعراء يجتهدون في ابتكار المعاني، والاحتفاء بها والسهر من أجل تجويدها، والانشغال الكامل بنسج لباسها (حِلية المعنى البلاغية). كما ساد الاحتفال بالمعنى في النقد، وفي استكشافه وبلوغه، وتدوينه، وكان أهل المعاني من الكُتاب والشعراء والمفسرين والشراح والخطباء أكثر الناس قربا من الأغنياء وأهل السلطان؛ لأن المعنى يساوي حياة الأمة، وقوتها واستمراريتها، بل وجودها الرمزي، ورأسمالها الفكري. كان المعنى الكامل المحَلَّى حلية تامة وملائمة للمقامات التخاطبية يضمن داخل الأدب والفكر حياة كاملة مستمرة، تتعقبها الفهوم والتأويلات البليغة. كان هاجس البلغاء من العرب هو الوصول إلى النص الأبلغ، وكان مسعى المؤَوِّلين البلغاء هو تحقيق التأويل الأبلغ.
على المعنى تأسس الوجود، وخُلق الإنسان ليكون لسلوكياته معنى وإضافة، وبلاغة في الفعل، وأبرز تجلياته عمارة الأرض والاستخلاف فيها، والإحساس بمعنى الخلق والوجود، عبر العبادة وإجلال الخالق، وانتظام الأفعال والأقوال في معان دالة على الخضوع والتعظيم. من أجل هذا أرسل الله الرسل، وأنيطت بهم مهمة إبلاغ المعنى، وإيصال الخطاب، ومن أجل هذه المعاني جاهد العلماء في إبلاغ المعاني الربانية بالكتابة والتأليف، وتنظيم العلوم، ومحاربة المعاني الفاسدة، وسارت بأهل هذه الصناعة أحوال الدنيا، فتعلق الكثيرون بها، معبرين بالمعنى عن الذوات وأحلامها وتصوراتها وتعلقاتها بمن رأت أنه أهل لصناعة المعنى له، من ذوي السلطان والبلدان، أو مما تعلقت به الأرواح في هواها وأتعبت الأبدان، أو مما نَفَّر من الدانية إلى روحانيات كمال السلوان.
ومثلما احتفل أهل المعنى بصناعته لضروب من المقاصد والغايات، واجتهدوا في صناعته وتذبيجه، اجتهد الرواة في نقله وتداوله ونشره، واجتهد آخرون في تدوينه والحفاظ عليه من الضياع، وعمل أرباب المعاني على البحث عنه، والتزود من محمولاته وطرائق صياغته، وسارع أهل المعرفة بتأويل الخطاب إلى فهمه ودراسته، ولا يزال التراث العربي أرضا بكرا تحتاج إلى دراسة تشكلات المعنى في النصوص المختلفة، وفي ألوان الخطاب من أجل دراسة العقل العربي المنتج لهذا المعنى، واحتفاله بالمعنى في الشعر، والنقد، والبلاغة، والشروح، والتفاسير، وكتب تاريخ الأدب ومدوناته.
لأجل ذلك قامت الممالك والمسالك على المعنى، وتأسست سعادات الأفراد والأمم أو شقاؤها على المعنى، وتحركت الجيوش بالمعنى، وفُتِحت البلدان به، وتوسعت الامبراطوريات عبر ما حملته رسائل الخلفاء والولاة وقواد الجيوش وخطبهم من معنى. وبالمعنى تكاثر النسل وحدثت عمارة الأرض، كما حدث خرابها أيضا (حروب التتار والمغول والحروب العالمية والتحالفات الدولية ضد بعض الأنظمة )، بالمعنى أمكن للحياة أن تكبر وتستمر وتتكوثر، وبالمعنى واللامعنى سالت الدماء، وقامت الفتن، وهلكت كثير من الأقوام والأمم، بالحق حينا وبالباطل وبالمصالح أحيانا أخرى كثيرة.
نظرية التأويل التقابلي رابط مباشر PDF