تنزيل 782837 كاتب مغربي باحث في مجال التأويل وتحليل الخطاب .يسعى هذا الكتاب إلى إغناء نظرية صناعة الخطاب، وتعزيز الأسس الفلسفية التي يحقق بها الخطاب بلاغته النصية والمقامية بأي صورة تواصلية حصل ذلك، وتحديدا الأسس الصناعية التي تسير في تناغم تام مع روح البلاغة الوجودية بوصفها أفقا جديدا لفهم العالم، مع الحرص على التأثير فيه إيجابا. كما يروم تقديم إجابات عن التساؤلات القائمة عن الوجود البليغ من منظور فلسفة الأدب، ومناهج تحليل الخطاب انطلاقا من مستجدات عصرنا، وحاجتنا الراهنة للعودة إلى المعنى الحقيقي لمكوثنا على الأرض .
تظل اجتهادات البلاغيين القدامى أكثر تطورا ونضجا من منجزاتنا البلاغية الراهنة، ويزيد هذا الوضعَ فداحة اتكاؤنا الكامل على منجزهم نعيده بطرائق اختزالية جافة تسيء إلى ما قدموا، وتُنَفِّر الأجيال الجديدة منه؛ إذ لم نضف إلى مقترحاتهم ما يطورها أو يجاوزها. فإذا انضاف إلى ذلك الاتكال المفرط على منجز الغربيين، واحتذاؤهم في كل صغيرة وكبيرة، فسيتبين حجم الإكراهات التي يواجهها الدرس البلاغي اليوم، وحجم المجهودات التي ينبغي القيام بها لبناء بلاغة صناعية واصفة وتأويلية ذات إجراءات تحليلية عالية تناسب التطور التواصلي الذي نعيشه في زماننا.
ومن ثَمَّةَ، فإن أطروحة الكتاب لا تتعارض مع الدعوة إلى توسيع مجال عمل البلاغيين من قَبْلُ، ومحللي الخطابات من بَعدُ، ومع سعيِهم لمواكبة التطورات الهائلة في مجال صناعة الخطاب، ولكنها تسعى إلى ربط الوسائل المؤثرة في الوجود بالبعد الفلسفي الأخلاقي، داعيةً إلى تعزيز المرجعية المقصدية المتناغمة مع حقيقة الوجود الإنساني العابد على الأرض، وتأثير أي صناعة للمعاني على مصيره في الزمن القريب والبعيد. تؤمن هذه الرؤية بأن كُلَّ ما بَلَغَتْهُ الحضارة من تقنيات تواصلية ذكية، يبقى مجرد وسائل وأدوات مصنوعة لخدمة الإنسان، وبلاغتُها الحقيقية تكمن في تعزيز وجوده الدال والمؤقت، مع تحقيق التمكين الطيب بالمعرفة والعلم، والحضور الاتصافي المطابق للحقيقة القرآنية.
هذا ما تسعى إليه “فلسفة البلاغة الكبرى” المنطلق منها لربط تشكلات الخطاب بالمرجعية الوجودية المتوافقة مع الرؤية القرآنية الابتلائية للإنسان تحديدا. وتبعا لما سبق، سيكون من أدوار كل البلاغيين ومحللي الخطابات الذين سيؤمنون مثلنا بهذه الحقيقة، تعزيز وجودنا بالخطاب، وتحصين هويتنا من التبعية، ومن التفسخ، وبناء أدوات نقدية لمقاومة زيف الأهواء، وخطر الإغواء بالصور، وإغراءات العناوين، والروابط الجذابة التي تثير الفضول وتوقِع في المحاذير.
هكذا تحاول البلاغة الوجودية أن تقدم منهجا واضحا لتحرير الدرس البلاغي من النظرة الضيقة التي ظلت تلازمه، ومن الاجترار والتكرير والتقديس، وذلك بإخراجه إلى عالم فسيح من التحولات والتأملات والاقتراحات والافتراضات التي يمكن أن تجد ما يدعمها واقعيا وعمليا. إنها بلاغة تحفل بالإنسان في الوجود؛ وتدعو إلى تنويره بمعاني الرسالة المحمدية التي انبثقت عنها علوم “البلاغة الكبرى” المرجعية، وهي بهذا المعنى مشروع معرفي مفتوح للمختصين في البلاغة، والفقه المتنور، وعلوم الدين ، ونظريات تحليل الخطاب، والسِّميائيات، ممن يحرصون على هندسة الأرواح عبر الأدب والفكر والفلسفة والعلوم والمعاني الوجودية الصحيحة.
أما المبادئ التي حكمت رؤيتنا فهي:
• مبدأ توسيع المفاهيم؛
• مبدأ القصدية الوجودية؛
• مبدأ تناغم الخطاب مع القصدية الوجودية؛
• مبدأ تماسك الرؤية الفلسفية؛
• مبدأ التجديد النظري؛
• مبدأ تمتين القوة الاقتراحية الإجرائية؛
• مبدأ تكامل العلوم؛
• ومبدأ وظيفية الخطاب في بناء العالَم الذي نرغب فيه.
تستند فلسفة “البلاغة الكبرى” كما أسلفنا إلى” الرؤية ” القرآنية الجامعة في تقريبها لحقيقة الإنسان والوجود، والمعنى من الوجود، انطلاقا من مد الجسور بين عالَمَيْ المُلك والملكوت، خلافا للمنظورات البنيوية المغلقة، وتجاوزا للمناهج النقدية ذات الأفق الفلسفي المحدود. كما لا يضيرها الخروج بالمفاهيم البلاغية التقليدية إلى بلاغة العوالم الافتراضية، والعوالم الميتافيزيقية، وفق أحد هذه المسارات:
أ -الخروج من الخطاب البياني المسطور إلى الخطاب البياني المنظور (الكون المبين).
ب- الخروج من السِّمياء التقليدية، ومن علوم بلاغتها إلى المجال الافتراضي وسيمياء العالم الرقمي الفسيح.
ج-الخروج من عالم الشَّهادة إلى الميتافيزيقا، وإلى عالم الملكوت وَفْق ما بلغنا عن طريق الوحي، بل النظر إلى ما وراء الطبيعة وجعله عالَما مُكَمِّلا لعالم الطبيعة .
د-الخروج بالتأويل العالِم من الحقائق إلى المجازات والاستعارات التقابلية والمنوالية .
تأسيسا على ما سلف، فإن الدرس البلاغي المعاصر يظل في حاجة إلى تطوير حسب ما تقتضيه الحاجات الراهنة في فهم الخطابات اللغوية وغير اللغوية، ليعزز ما قدمه الباحثون المحدثون من اقتراحات واجتهادات، ونقترح لذلك مجموعة من المبادئ المسعفة في نمذجة مقنعة، وهي:
أ- ضبط الكليات البلاغية، أو المداخل البلاغية الأساس التي تندرج تحتها الجزئيات، مع الاستدلال على العلاقة بين كل باب بلاغي ومواضيعه التفصيلية.
ب- ترتيب المفاهيم البلاغية داخل أقسام جديدة، مع تبسيطها، وإغنائها، وتوسيع مداها النظري والتطبيقي.
ت- تقديم ما يحقق بلاغة الخطاب- لغويا كان أو غير لغوي- تقديما مُيَسرا مبيَّنا بالتوضيحات والأمثلة.
ث- خدمة درس البلاغة بالتذوق أو بالتحليل المنطقي، أو بهما معا، وبما يستجد من الاجتهادات المعرفية الراهنة، والتطورات التقنية الحديثة، وهو ما سيقدم – في تصورنا- إفادات قوية للبلاغة الحديثة ببيان أسس الجمال في الخطاب، وقوة التخييل، وجودة العرض، بوساطة لغة واصفة قادرة على تمتين العلم بالأسلوب اللغوي أو الرقمي وضبط قواعده.
د- تُوفر مباحث البلاغة القديمة بفروعها المتنوعة خلفية نظرية ثرية كاملة لمعالم الجمال في الخطاب، يمكن الاستمداد منها على الدوام لتطوير مباحث بلاغية فرعية، أو نماذج تحليلية وتأويلية.
ه- حقائق الأساليب البلاغية تظل قائمة وإن اختلفت التسميات، وهو ما يسمح بتوسيع مجال عمل المفاهيم القديمة لتستوعب الحاجات البلاغية الراهنة، مع إمكانية استمداد القوة من الأصول القديمة، وإن بدت ضيقة المجال والمدى؛ فقد قُدمت في موضوع” الاستعارة” عند الغربيين – مثلا- نظريات كثيرة، ويمكن إنجاز مثل ذلك في “التناسب”، و”البديع”، و”التخييل”، وفي “نظم النص”، و”تحليل الخطاب”، و” الحجاج” وغير ذلك مما نجد له أصولا وامتدادات عريقة في تراثنا التأويلي والنقدي.
ز- يمكن إعادة قراءة الأنساق العميقة الثاوية في البلاغة القديمة تبعا للخرائط التالية: خريطة “البلاغة التحليلية”، و”خريطة البلاغة البديعية التجميلية”، وخريطة “البلاغة التـأويلية”، وخريطة “البلاغة الحجاجية التدليلية”، و”خريطة البلاغة التخييلية “، وخريطة “البلاغة الوجودية التأميلية”، وجعلها منطلقا لتأسيس بلاغة حديثة مواكِبة.
ط- من أدوار محللي الخطاب البلاغي التراثي على المستوى الأكاديمي بيان حدود التجاور والتفاعل والترافد بين هذه الخرائط والأنساق، وبيان تقاطعاتها مع المناهج التحليلية الحديثة، مثل المناهج النقدية البلاغية، علم النص وتحليل الخطاب… وتَرْك باب البحث مفتوحا لتجديد الدرس البلاغي، مع الاستئناس بنظريات صناعة الخطاب البليغ، لتنويع الوسائل والأدوات والمَلَكات، وضمان أفضل تواصل ممكن عبر الصورة والرقميات الجديدة، والشَّريط المصور، وغير ذلك من البلاغات الكثيرة التي تُحرك حياتنا المعاصرة، دون أن نستطيع إيجاد الأدوات الاصطلاحية المناسبة لتحليلها؛ وتبعا لذلك، فليس للبلاغة حدود بهذا المعنى الموسع لتنوع مظاهرها في عالَمِنا.
تأسيسا على ما سبق، وزَّعنا قضايا الكتاب النظرية، وتمثيلاته الاستدلالية على ثمانية فصول:
حددنا في الفصل الأول معالم بلاغة الوجود البليغ، وذكَّرنا بمبادئ البلاغة الكبرى، ومرجعياتها الأصيلة، وغاياتها، وعلاقتها بعلوم البلاغة الصغرى، وأكدنا الحاجة إلى توسيع مجال عمل البلاغيين، انطلاقا من توصيف واقع تدريس البلاغة بالمدارس والجامعات، فقدمنا مجموعة من المقترحات التصورية والعملية، وبيَّنا أنه لن يحصل تجديد الدرسين التأويلي والبلاغي بادعاء التجديد دون تحقيق رؤيته الاستراتيجية، ودون تعميق النظر الفلسفي في قضايا البلاغة في علاقتها باللغة والنحو والمعنى والتواصل والتأثير، عملا بمبدإ تطالب الأدوات المنهجية، وتساند العلوم، والخروج من البعد التاريخي إلى البعد التاريخاني، وتكوين نسق فكري وفلسفي مرجعي متعدد الأبعاد، يتحول من البعد الدنيوي الأحادي الذي تدخل ضمنه كل النظريات البلاغية المعمول بها حاليا، إلى البعد الوجودي المتعدد للكينونة الروحية اللامتناهية.
لتعميق مناقشة آفاق هذه الأطروحة، بسطنا في الفصل الثاني بعض معالم امتدادات فلسفة صناعة الأدب البليغ، والأسس المرجعية للأدب القاصد، انطلاقا من متغير رئيس لم تأبه به نظريات الأدب الدنيوية الضيقة الأفق، وهو استحضار ثنائية عالَم المُلك وعالَم الملكوت، وهي الثنائية البانية للرؤية القرآنية للوجود وعلاقة الإنسان به. ثم سعينا إلى فتح أفق معرفي في مجال النقد الأدبي يتخذ موضوعا له فقه المآلات الأخروية من قِبل صُناع الخطابات، مع التنصيص على أهمية إحياء علوم الأدب بعلوم الشريعة .
توضيحا لذلك، ربطنا في الفصل الثالث بينه وبين عوالم الروح، والنفس، والحكمة، والعقل، والهوى… بحثا عن الأطر الخفية التي تجد فيها البلاغة الروحية الكبرى مرجعا تأصيليا لها، ثم مجالا للتخليق والبناء العرفاني، فمن غير اقتحام هذه العوالم، ومساءلة علاقتها بعالمي الشهادة والغيب، وموقع الإنسان المسؤول منها، فإنه سيظل داخل أنساق مغلقة من المعرفة بعلوم النص.
يعمق الفصل الرابع الامتدادات الفلسفية للأنموذج الوجودي المقترح، بتأصيلها من القرآن الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، بل من الأخلاق النبوية الكريمة التي قدمت أبلغ نماذج التخليق قولا وعملا. مع محاولة استخلاص معالم الكينونة البليغة انطلاقا مما وُصف به النبي الكريم، مع بيان أدوار الإنسان المعاصر في مغالبة عزلة العلوم الحقة، وربطها روحيا مع عوالم البلاغة الكبرى.
قدمنا في الفصلين الخامس والسادس – تعزيزا لهذه الطموحات- رؤى منهجية إضافية تعمق فلسفة أطروحتنا البلاغية، وتصل أفكارَها بأُثول مرجعية أساس، كما عرضنا نماذج من الخطابات التي تحققت فيها معالم رؤية البلاغة الوجودية على سبيل التمثيل فحسب، ومن ذلك بعض الوقفات التأويلية والتحليلية في حِكم ابن عطاء الله السَّكَنْدراني، وفي “ميمية” شرف الدين البوصيري المعروفة بـ”البُردة”.
لم تسمح لنا وقفاتنا الاستدلالية بتتبع النصوص كاملة، فلذلك اكتفينا منها بما يفيد، ويدل على أهم مقاصدنا، وهي:
1. بيان علاقة الصناعة الأدبية المحكمة بامتلاك الرؤية الوجودية الصحيحة.
2. بيان قدرة الخطاب على ترجمة دوائر التذوق العرفاني للمعاني الوجودية، والفهم البليغ، والتربية الروحية الإيمانية السليمة.
3. بيان تناغم مقاصد الخطاب مع مقاصد الدين في احتفائها بالنماذج الأخلاقية العالية.
4. بيان أدوار النقد الفلسفي في تقويم الخطابات بمعايير البلاغة الكبرى.
أما الفصلان السابع والثامن، فقد نهجنا فيهما سبيل التدليل على وجاهة أطروحة بلاغة الوجود، بتحليل نماذج من الرِّحلات الأدبية، منها ما يعود لبداية القرن العشرين، ومنها ما كُتب قريبا من زمننا. فقدَّمنا انطلاقا من معايير “البلاغة الكبرى” بعض معالم الخطاب السردي البليغ الذي يستحق أن يُقرأ ويُدَرَّس، فتتبعنا الرحلة الروحية والمعرفية في “رَواء مَكَّة ” لحسن أوريد، وهي رحلة أدبية وفكرية بديعة قائمة على المقابلة بين أحوال النفس ما قبل التحول الروحي وما بعده، كما تتميز فنيا باستعارات فنية ثقافية وفكرية وجدنا بينها وبين التصور الذي نشيده تناغما قويا .
اخترنا بعد ذلك فحص رؤية العالم، والوجود، والقيم، والتحولات الاجتماعية والفكرية، وتقلبات التاريخ، والمعرفة، والصراعات الروحية في بعض الرحلات الاستكشافية الفرنسية، فحاولنا بسط موضوعات “رحلة في أسرار بلاد المغرب” لـ “إتيان ريشي”،” ورحلة إلى المغرب”، لـ “إمانويل شلومبيرجر” ، انطلاقا من رؤية “البلاغة الكبرى” للعالم والوجود الروحي والفلسفي. وقد خَلُصنا إلى بيان حدود العبث واللامعنى في تاريخ الأمم التي لا تغتني بما لديها من مرجعيات تشريعية وإيمانية وفلسفية.
782837 رابط مباشر PDF