تنزيل البُنى الاستعارية كاتب مغربي باحث في مجال التأويل وتحليل الخطاب .حاولنا في”البُنى التقابلية” تعزيز تأويلية النسق الاستعاري مُتَتَبِّعين إياه على مستوَيَيْ الجملة والنص، فقدَّمْنا خريطة أولية لهذا الانتقال، وبيَّنا الأساس التقابلي للاستعارة انطلاقا من التقابل المنطَلق عبورا إلى التقابل الهدف، وحدَّدْنا دور التقابل الجسري في تحقيق الاستعارات المرَكَّبة والمتسلسلة، وأكَّدنا أهمية العلم بذلك لتحليل مدقَّق للاستعارات الدالة. غير أن ذلك المقترح حصر عمل التأويل في مستوى البُنى الصغرى للاستعارة:الاستعارة في الجملة، والاستعارة النصية، والاستعارات المتسلسلة، أو الاستعارات المتصادية بين النصوص على أبعد الحدود.
استدعى تتميم النسق التصوري التقابلي للاستعارة عملا مُكَمِّلا يجعل موضوعه “الاستعارات المجاوزة للغة”،مثل استعارة الأنوال الفنية والمنهجية والذوقية والسمعية والبصرية، والقولية، واستعارة الأنوال الرقمية الجوالة، واستعارة المفاهيم والنظريات، والفهوم والتأويلات، ويستهدف فهم دينامية الاستعارة في تشكل الخطابات دون التخلي عن البنى التقابلية الظاهرة والخفية لكل فعل استعاري؛ فليست الأفعال الاستعارية إلا تجليا من تجليات استعمال الإنسان للخطاب ولأدوات صناعته.
إذا تمكن علم التأويل من ضبط قانون هذا الجريان الاستعاري الجوال، وكيفيات عمله، فإن ذلك سيُمَكِّنُنا من جعل الاستعارة أداة للتواصل والتقارب بين الثقافات، وتأويل الاستعارات بكل أشكالها وأنوالها، وفهم التفاعلات الحاصلة بين العلوم والفنون، وبين النصوص القديمة والحديثة، الأشخاص فيما بينهم، وبين المراحل الثقافية، والديانات، والأنظمة السياسية، وغير ذلك.
الاستعارة من أقوى أعمدة الدرس البلاغي وركائزه، وقد ظلت منطلقا لاجتهادات كثيرة عربية وغربية قديمة وحديثة؛ ومع ذلك فالحاجة تظل قائمة لتحليل مظاهر الخطاب الاستعاري الجديد، ورفد الجهود النظرية السابقة وإغنائها ببعض التصورات والمبادئ المناسبة في أفق بناء نموذج استعاري موسع تَسنُد فيه نظرياتُ الاستعارة التقليدية المفيدةُ في الفهم والتحليل الاجتهاداتِ التي نُقدِّمُها مستأنسين ببعض التصورات الغربية في هذا الشأن. وحتى لا يظل المقترح نظريا سنُعَزِّزه بالأمثلة والنماذج ليكون القارئ على بينة بأن هذه المقترحات لها دعائم ومرتكزات واقعية، وأمامها آفاق عملية وعلمية واسعة.
أسئلة الاستعارة
تأسيسا على ذلك، قد تتوارد على ذهن متصفح الكتاب أسئلة عديدة: إلى أي حد نحن في حاجة إلى مشروع تأويلي موسع موضوعه الاستراتيجيات الاستعارية؟ ما البُنى الاستعارية التي تقوم عليها صناعة الخِطاب؟ أصحيح أن الاستعارة بمفهومها القديم أصبحت محدودة الفعالية في الفهم، وأن إمكانيات استعارية بمفاهيم جديدة حلت محلها ؟ ما المقصود بالمنوال الاستعاري؟ وماذا يعني المؤَلِّف بالاستعارات الجَوَّالة ؟ إلى أي حد يتسع الخطاب للمقاربة بالمنوال الاستعاري مثلما اتسع للمنوال التقابلي؟ كيف يغتني علم التأويل المعاصر بالمقترحات الجديدة لتحليل الخطاب الاستعاري؟ ما حقيقة الاستعارة المنوالية رقميا ورمزيا وفنيا؟ وكيف يتم تداولها وتأويلها؟ هل ينطلق المؤلف من نموذج بلاغي جاهز أو من الدرجة الصفر لبناء نموذجه التحليلي؟
فرضية الأنوال القولية والصناعية
انطلاقا من هذه الإشكالات الثقافية والتأويلية، سنحاول فحص فرضية الأنوال القولية المهاجِرة أو المُهَجَّرة، وهي مستوحاة من النموذج العلمي، ومن التوحد الحاصل بين العلوم الصناعية، شأن التمازج الحاصل بين الرياضيات والفيزياء والكيمياء والأدب واللغات، كما يعكسه النجاح المبهر في الهواتف الذكية وفي غيرها من المنتجات الصناعية المتطورة؛ مما يسمح بفتح أفق نقدي ومعرفي يطور النماذج النقدية التجزيئية القديمة، ويسعى إلى تحقيق وصف للمناويل الأدبية البليغة، والاستعارات المُوفَّقة في مجال القول القاصد، ويحتاج هذا إلى مرجع نظري يتضمن المفاهيم الواصفة التي تفسركيفية تنقيل المنوال القولي من مقام إلى مقام، والإبدالات التي تَعَرَّض لها المنوال بتغير الأحوال، وحدود تَوَفُّق المستعير في ذلك، وإلى أي حد ساعدت حركية الأنوال في تطوير الكتابة العلمية والأدبية، وإمكانيات تسخير نتاج هذه التصورات في تحرير الدرس النقدي، وتطوير صناعة الأدب، وتعميق أدوات تحليل الخطاب.
تقتضي هذه الفرضية تحققات تجريبية تبين نجاعة التصور وحدوده الإجرائية، تنطلق من ملاحظات تنقيل الأنوال القولية في الشعر العربي مثلا، وغيرها في مجال الكتابة النثرية حيث تتحرك الأنوال الحجاجية والشعرية، وفي الأنوال التعبيرية المُنَقَّلة إلى المسرح من تشكيل وغناء وشعر وتمثيل وسينما ولوحات رقمية… كما تجرنا افتراضاتنا إلى ملاحظة الهندسة البنائية التي تستعير أنوالا كثيرة من مجالات صناعية متعددة، وإلى ما يعرفه أهل كل فن عند استعارة أنوالهم القالبية من حقول أخرى، مثل الرسم، والتشكيل والسينما، والموسيقى، والإشهار، والبرامج التعليمية . وإلى تتبع استعارة المجتمعات الصغرى أنوال التنمية – مثلا- من المجتمعات الكبرى، واستعارة النماذج الفكرية، وتجريب الأنوال الناجحة في مجال بناء الدول وتسيير المؤسسات، وضبط الأمن القومي. وسيوقفنا التحليل –بلا ريب- عند استعارة العلوم الإنسانية لمناويل العلوم الحقة في مساراتها المنهجية على مستوى الملاحظة والافتراض والتحقق وتعميم النتائج، وعند أنوال تدريس الأدب وفهمه والتي تستعير إجراء التحققات العلمية لضبط الفهوم وفرضيات التأويل، قصد تحقيق أكبر قدر من الموضوعية والدقة. كما ينشط في المجال التربوي الراهن استنساخ المناهج التعليمية والبيداغوجيات المتطورة، وتنقيل طرق تأليف الكتب ومناهج البحث العلمي. كل هذه الأشكال الاستعارية نجد لها أمثلة كثيرة في كل مظاهر الحياة المادية والمعنوية من حولنا.
مضى وقت غير يسير وأنا أتأمل هذا الطرح نظريا، وأعيد النظر في الجدوى البلاغية والتأويلية من نموه واستوائه، فانفتح باب البحث عن النماذج المناسبة والمقنعة، كما توطد الاستئناس بالنظريات البلاغية المتعلقة بهذا الموضوع لإيجاد كل ما يمكنه أن يصبح سندا معرفيا. ومن باب الاعتراف وتقاسم مكابدات التأليف فإننا وقفنا متأملين ما جاء به لايكوف وجونسون في إقرارهما أن الاستعارة حاضرة في كل مجالات حياتنا اليومية، وأنها” ليست مقتصرة على اللغة، بل توجد في تفكيرنا وفي الأعمال التي نقوم بها” . وقد فوجئنا حقا بأن الأفكار الأولية التي بدأت تتشعب وَفْق مقاربتنا الـتأويلية حول الفعل الاستعاري هي أطروحة سابقة وقائمة بذاتها، تؤمن بأن”النسق التصوري العادي الذي يُسَيِّر تفكيرنا وسلوكَنا له طبيعة استعارية بالأساس” ؛ وكأنما أُسقط في أيدينا، فقررنا صرف النظر عن هذا الموضوع إذ بدا أن لا داعي لتعميق البحث فيه، ثم حاصَرَنا جيش التريث للمضي قُدما لمعرفة الإطار النظري الذي تتحرك فيه هذه الأطروحة، وهو أن التحقق الاستعاري لا يتعلق بالألفاظ فحسب، وإنما بالبُنى التصورية المستنسَخَة، أي إننا نُفهِم تصورا بتصور آخر قولا أو كتابة ؛ فالعبارات الاستعارية ترتبط بتصورات نسقية منقولة؛ من قبيل”الجدال حرب”: أي استعارة نسق الحرب وتوابعه للجدل الكلامي. ولذلك اتجه اهتمام صاحِبَيْ هذا الطرح إلى استثمار العبارات اللغوية الشائعة لمعرفة التصورات الاستعارية، وفهم سلوكاتنا الاستعارية انطلاقا منها . وهذا تطور حقيقي في نظريات الاستعارة، إذ وَجَّه اهتمامه لتتبع الاستعارات المتنقلة بين مجالات الحياة.
قدمت النظرية التصورية أمثلة كثيرة للاستعارات البنيوية، أي التي يُبنى فيها تصور استعاري انطلاقا من آخر، من قبيل: الاستعارات الاتجاهية القائمة على الأبعاد الفضائية المتقابلة(فوق/ تحت):”سقطت معنوياتي”… وما يتعلق بذلك من تفريعات وأمثلة مبيِّنة تعكس نظاما فيزيائيا وقيميا وثقافيا. ثم الاستعارة الوجودية التي تحدد علاقة المتكلمين بالوجود:” التضخم يرهقنا”،” التضخم عدو”… تبين من هذا أن الاهتمام المعرفي في هذا المنظور للاستعارة لايَنْصَبُّ على الجانب اللفظي كما في البلاغة القديمة عربية وغربية، وإنما على النسق التصوري المستعار وعمل الذهن، إذ الاستعارات التصورية بنيات معرفية ترسخت بعمق في العقل الباطن، مقابل المظهر السطحي للاستعارات اللغوية ، ولذلك قد تبدو بعض الاستعارات تشبيهات بليغة، ذلك أن الأطروحة التصورية تقصد بالضبط المعنى اللغوي للاستعارة باعتبارها زحزحة لغوية استعمالية لتصور من مجال إلى آخر، واعتمادا على أساليب بلاغية معروفة(الاستعارة، الكناية، المجاز، التشبيه…).
لم تُقنعنا هذه المنجزات بتوقيف مشروع هذا الكتاب، ذلك أن التدبر في أهمية ما سيحمله من إشكالات معرفية بخصوص الاستعارات الثقافية الجَوَّالة حوَّل هذا الموقف إلى مُوجِّه قوي يحث على إكمال الحلقات الناقصة، فضلا عما يحمله من وجهات نظر ستغني تحليل الخطاب في جانبه الاستعاري.لم يهتم البحث اللساني والمعرفي لاستعارة التصورات وتزحزُح أنظمة القول وتحرك التمثلات بفهم الاستعارات المنوالية الكبرى، والنماذج القولية الجمالية، والبنى الفنية المستعارة، والطرازات الهندسية، والنظم التقنية والاقتصادية والتربوية وغيرها. وهو ما سَوغ لنا المضي قُدُما لبناء مقترح يوسع مجال عمل الاستعارة ليشمل البنى الثقافية، والأنواع الخِطابية، والفلسفات، والصناعات وغيرها مما يُمَكِّننا من فهم مترابط لأنظمة القول وبُناه وتحولاته من مجال إلى آخر.
البُنى الاستعارية رابط مباشر PDF