تنزيل الجريمة والعقاب فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي (بالروسية: Фёдор Миха́йлович Достое́вский ); أصد: [ˈfʲɵdər mʲɪˈxajləvʲɪtɕ dəstɐˈjɛfskʲɪj] ( سماع) ؛ (11 نوفمبر 1821 – 9 فبراير 1881). هو روائي وكاتب قصص قصيرة وصحفي وفيلسوف روسي. وهو واحدٌ من أشهر الكُتاب والمؤلفين حول العالم. رواياته تحوي فهماً عميقاً للنفس البشرية كما تقدم تحليلاً ثاقباً للحالة السياسية والاجتماعية والروحية لروسيا في القرن التاسع عشر، وتتعامل مع مجموعة متنوعة من المواضيع الفلسفية والدينية.
بدأ دوستويفسكي بالكتابة في العشرينيّات من عُمره، وروايته الأولى المساكين نُشِرت عام 1846 بعمر الـ25. وأكثر أعماله شُهرة هي الإخوة كارامازوف، والجريمة والعقاب، والأبله، والشياطين. وأعمالُه الكامِلة تضم 11 رواية طويلة، و3 روايات قصيرة، و17 قصة قصيرة، وعدداً من الأعمال والمقالات الأخرى. العديدُ من النُقّاد اعتبروه أحد أعظم النفسانيين في الأدب العالمي حول العالم. وهو أحد مؤسسي المذهب الوجودي حيث تُعتبر روايته القصيرة الإنسان الصرصار أولى الأعمال في هذا التيّار.
ولِد دوستويفسكي في موسكو عام 1821، وبدأ قراءته الأدبية في عُمرٍ مُبكّر من خلال قراءة القصص الخيالية والأساطير من كُتّاب روس وأجانب. توفّيت والدته عام 1837 عندما كان عُمره 15 سنة، وفي نفس الوقت ترك المدرسة والتَحق بمعهد الهندسة العسكرية. وبعد تَخرّجه عَمِل مُهندساً واستمتع بأسلوب حياةٍ باذِخ، وكان يُترجم كُتباً في ذلك الوقت أيضاً ليكون كدخلٍ إضافيّ له. في مُنتَصف الأربعينيات كَتب روايته الأولى المساكين التي أدخلته في الأوساط الأدبية في سانت بطرسبرغ حيث كان يعيش. وقد أُلقيَ القبض عليه عام 1849 لانتمائه لرابطة بيتراشيفسكي وهي مجموعةٌ أدبية سريّة تُناقِش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكِم في روسيا وحُكِم عليه بالإعدام، ولكن خُفف الحُكم في اللحظات الأخيرة من تنفيذه، فقضى 4 سنوات في الأعمال الشاقّة تلاها 6 سنوات من الخدمة العسكرية القسرية في المنفى.
في السنوات اللاحقة، عَمِل دوستويفسكي كصحفيّ، ونَشر وحرّر في العديد من المجلّات الأدبية، وعُرِفت تلك الأعمال بـ مذكرات كاتب وهي مجموعة مجمعة من مقالاته خلال أعوام 1873-1881. وقد واجه صعوبات مالية بعد أن سافر لبلدان أوروبا الغربية ولعب القِمار. ولبعض الوقت، اضطر فيودور للتسوّل من أجل المال، لكنه في نهاية المطاف أصبح واحداً من أعظم الكُتّاب الروس وأكثرهم تقديراً واحتراماً، وقد تُرجِمت كتبه لأكثر من 170 لغة. وقد تأثر بعدد كبير من الكُتّاب والفلاسفة في ذلك الوقت منهم: كيركغور، وبوشكين، وغوغول، وأوغسطينوس، وشكسبير، وديكنز، وبلزاك، وليرمنتوف، وهوغو، وآلان بو، وأفلاطون، وثيربانتس، وهيرزن، وكانت، وبلنسكي، وهيغل، وشيلر، وباكونين، وساند، وهوفمان، وميتسكيفيتش. وكانت كتاباته تُقرأ على نطاق واسع داخل وخارج موطنه روسيا، وأثّرت على العديد من الكُتّاب الروس وغير الروس منهم جان بول سارتر، وفريدريك نيتشه، وأنطون تشيخوف، وألكسندر سولجنيتسين.
حياته
كان والِدا دوستويفسكي جُزءاً من عائلة ليتوانية نبيلة مُتعدّدة الأعراق والمذاهب الدينيّة من مدينة بينسك، مع جذور يرجع تاريخها للقرن السادس عشر. وشَمِلت عائلته أفراداً مسيحيين من الكنيسة الروسية الأرثوذكسية، والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، والكنيسة الكاثوليكية الشرقية. عائلته من جهة والده كانوا رجال دين، أما من جهة أمه فكانوا تُجّاراً. كان من المتوقّع أن يُصبِح والده ميخائيل كاهناً أيضاً، ولكنّه كسر قاعدة العائلة وفرّ بعيداً.
في عام 1809 التحق ميخائيل دوستويفسكي البالغ من العمر 20 عاماً بأكاديمية موسكو الطبية الجراحية. ومن هناك تم تعيينه في مستشفى موسكو، حيث عَمِل كطبيب عسكري، وفي عام 1818، صار كبير الأطبّاء. وفي 1819 تزوج ماريا نيشاييفا. في العام التالي، تولى وظيفة في مستشفى ماريانسكي للفقراء. وبعد ولادة أولى ابنَيه الاثنين ميخائيل وفيودور، تمت ترقيته لمساعدٍ جامعي، وهو اللقب الذي جَعله من طَبقة النُبلاء ومكّنه من شراء عقار صغير في داروفوي، وهي بلدة على بُعد 150 كم من موسكو، حيث كانوا يستجّمون في الصيف هناك. كان فيودور الابن الثاني لأبويه، وكان هناك 7 أبناء آخرين هم: ميخائيل (1820-1864)، فارفارا (1822-92)، أندريه (1825-97)، ليوبوف (ولد وتوفي عام 1829)، فيرا (1829-96)، نيكولاي (1831-83) وألكساندرا (1835-1889).
ولد فيودور دوستويفسكي في 11 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1821 بموسكو، وهو الابن الثاني لوالديه. وترعرع في منزل العائلة قرب مستشفى ماريانسكي للفقراء والذي يُعتَبر حيّاً فقيراً من الطبقة الدنيا على طرف موسكو. كان دوستويفسكي خلال لعبه في حديقة المستشفى يشاهد المرضى المُتألّمين، والذين يُعتَبروا أسوأ المرضى حظاً حيث أنهم من الطبقة الدنيا.
اطّلع دوستويفسكي على الأدب منذ صغره. في الثالثة من عمره، كان قد طالَع الملاحم البطولية والحكايات والأساطير الخرافية، كُلّ هذا كان عبرَ مُربيتِه ألينا فرولوفنا التي أثّرت عليه كثيراً في طفولته. وعندما بلغ الرابعة، قامت أمّه بتدريسه الكتاب المقدس ليتعلم من خلاله القراءة والكتابة. وقد عرّفه والداه بمختلف أنواع الأدب، من ضمنهم الأدباء الروس مثل كرامزين وبوشكين وديرزهافين؛ والأدب القوطي مثل آن رادكليف؛ والأدب الرومانسي لأعمال شيلر وغوته؛ والحكايات البطولية لـ ثيربانتس ووالتر سكوت؛ وملاحم هوميروس. وقد ذكَر دوستويفسكي ذلك، بأن والديه كانا السبب الرئيسي لتعلّقه بالأدب وذلك بسبب قصص ما قبل النوم الذين كانا يقرآنها له. بعض تجارِبه في طفولَته أثّرت على كتاباتِه لاحقاً، عندما كان بالتاسعة من عمره، تعرّضت فتاة للاغتصاب من قِبَل رجلٍ مخمور، تلك الحادثة عَلِقت في ذهنه، وظهر موضوع الرجل الذي يعتدي على الفتيات في الإخوة كارامازوف والشياطين وغيرها من المؤلّفات.
وعلى الرغم من كون جسد دوستويفكسي كان نحيفاً وغير قوي، فقد وصفه والداه بكونِه متهوّراً وعنيداً ووقحاً. في عام 1833، والد فيودور الذي كان مُتديّناً بطبعه، أرسَله لمدرسة داخليّة في فرنسا ومن ثم إلى مدرسة تشيرماك الداخلية. ووُصِفَ هناك بأنه ذو وجهٍ شاحب وانطوائي ورومانسي. ولدفع الرسوم المدرسية، اقترض والده المال ووسّع عمله الطبي الخاص. شعر دوستويفسكي بالخروج من مكانه بين زملائه الأرستقراطيين في مدرسة موسكو، وانعكست التجربة لاحقاً في بعض أعماله، ولا سيما رواية المراهق.
في 27 سبتمبر/أيلول من عام 1837، توفّيت والدة فيودور بالسل. وفي مايو/أيار من العام نفسه، أرسَله والداه برفقة أخيه ميخائيل للدراسة في معهد نيكولايف للهندسة العسكرية في مدينة سان بطرسبرغ، فاضّطر بسبب ذلك ترك الدراسة الأكاديميّة والتركيز على مستقبله في تقوية حياته المهنية العسكرية. وقُبِل في المعهد وبدأ بالدراسة فيه في يناير/كانون الثاني 1838، أما أخوه ميخائيل فقد تم رفضه لأسبابٍ صحيّة فانتقل للدراسة في مدينة رفال في إستونيا.
كَرِه فيودور الأكاديمية، وذلك بسبب عدم اهتمامه بالعلوم والرياضيات والهندسة العسكرية وتفضيله للرسم والهندسة المعمارية. كما وصفه صديقه كونستانتين تروتوفسكي مرّة. شخصيّة فيودور واهتماماته جعلت منه شخصاً غريباً بين زملاء دراسته الـ120. وقد أظهر شجاعةً وحسّاً بالعدالة، وحماية للقادمين الجدد، وانحيازاً للمعلّمين منه للطلاب، ونقداً للضُبّاط الفاسدين، ومساعدةً للفلاحين الفقراء. وعلى الرغم من كونِه كان منعزلاً ويعيش في عالمه الأدبي الخاص، إلا أنه كان يلقى احتراماً من زملاءه الطُلّاب، وقد لقّبه الطلاب بأنه الكاهن فوتيوس.
ظهرت علامات الصرع على فيودور لأول مرة عندما عَلِم بوفاة والده في 16 يونيو/حزيران 1839. على الرغم من كونِ مصدر هذه المعلومة ابنته لوبوف التي يعتَبِرها الكثير من المؤرّخين غير موثوقة، وقد عَمِل عليها فرويد فيما بعد. توفّي والده بشكل أساسيّ من سكتةٍ أصابته، بيدَ أن جاره بافل كلوشانتسيف ادّعى أنه مات مقتولاً من قِبَل أقارِبه، وفي حال تم إثبات التهمة بأنّه قُتِل، كاد كلوشانتسيف ليستطيع شراء الأراضي التي تم إخلاؤها، وقد انتهت القضية بتكذيب الادّعاء في محاكمة في تولا، ولكن شقيقه أندريه دافع عن القصة. على العموم، بعد وفاة والده أكمَل فيودور دراسته وتخرّج من الأكاديمية وأعطيَ لقب مهندس عسكري، مما خوّله الذهاب والعيش بعيداً عن الأكاديمية. فذهب وزار أخوه ميخائيل في رافل، وحضر المسرحيات وعروض الأوركسترا والباليه. وخلال تلك الفترة، اثنين من أصدقاءه عرّفوه على المقامرة.
في 12 أغسطس/آب 1843، عَمِل فيودور باعتباره مُهندس ملازم وعاش مع أدولف توتليبن في شقة يملكها الدكتور ريسنكامف، وهو صديق ميخائيل. وصفه ريسنكامف بقوله: “ليس أقل لطفاً أو أقل تهذيباً من أخوه، ولكن عندما لا يكون في مزاج جيّد كثيراً ما يُحدّق في الفراغ، وينسى الأخلاق الفاضلة، بل وأحياناً يصل لدرجة الوقاحة وفقدان وعيه بذاته”. في ذلك العام أنهى فيودور أولى أعماله الأدبية، وقد كانت ترجمة لرواية أوجيني غراندي من تأليف أونوريه دي بلزاك، وقد نُشِرت في عدد شهر يونيو/حزيران ويوليو/تموز في مجلّة Repertoire and Pantheon. تَبِعها عددٌ من الترجمات غير الناجحة، وصعوباته الماليّة قادته في البدء لامتهان كتابة الروايات.
أنهى فيودور دوستويفسكي روايته الأولى المساكين في مايو/أيار 1845 بعد عامَين من نشر ترجمته الأولى لـِ بلزاك. صديقه ديمتري غريغوروفيتش، الذي كان زميله في السكن في ذلك الوقت، أخذَ النُسخة الأولية للشاعر نيكولاي نيكراسوف مدير تحرير مجلة Sovremennik، وهو بدوره عرضها على الناقد الأدبي ذو التأثير فيساريون بلنسكي. وقد وصفها بلنسكي بكونها أول رواية اجتماعية روسيّة. صدرت المساكين في 15 يناير/كانون الثاني 1846 كجزءٍ من مجموعة دوريّة سانت بطرسبرغ ولاقت نجاحاً تجارياً.
أدرك فيودور أن مهنته العسكرية ستعرض حياته الأدبية المزدهرة الآن للخطر، لذلك كتب خطاباً يطلب فيه الاستقالة من منصبه. بعد فترة قصيرة، كتب روايته الثانية الشبيه ونُشِرت في مجلة Notes of the Fatherland في 30 يناير/كانون الثاني 1846، قبل أن تُنشَر في فبراير/شباط من العام نفسه. وفي الوقت نفسه، تعرّف دوستويفسكي على الاشتراكية وأفكارها من خلال قراءته للمفكرين الفرنسيين مثل فورييه وكابيه وبرودون وسايمون. وخلال معرفته بـ بلنسكي توسّع في فلسفة الأفكار الاشتراكية. وكان مُنجذباً لمنطق الاشتراكية، والحس بالعدالة واهتمامها بالفقراء المُعدَمين والمحرومين. وقد توتّرت علاقته مع بلنسكي بشكل متزايد خاصّة بعد إفصاحه بكونِه ملحداً مما يتعارض مع معتقدات فيودور الأرثوذكسية الروسية، ولكن في نهاية الأمر تقبّله.
لاقت رواية الشبيه بعد نشرها نقداً سلبيّاً، وكانت صحّة فيودور تزداد سوءاً ونوبات الصرع أكثر من ذي قبل، ولكنّه واصل الكتابة. خلال الفترة من 1846 إلى 1848 أصدر عدّة قصص قصيرة نُشِرت في مجلة حوليات أرض الآباء؛ من هذه الروايات السيد بروخارشين وربة البيت وقلب ضعيف والليالي البيضاء. تلك القصص لم تلقَ نجاحاً ومعظمها قوبلت بآراء مختلفة، مما أوقع فيودور في مشاكل ماليّة مرة أخرى، لذلك انضمّ إلى رابطة بيتيكوف الاشتراكية الطوباوية التي ساعدته للنجاة من حالته البائسة. عندما انتهت الرابطة، كان فيودور قد صادق أبولون مايكوف وشقيقه فاليريان مايكوف. وفي 1846، وبتوصية من الشاعر أليكسي بليششيف انضمّ إلى رابطة بيتراشيفسكي التي أسّسها ميخائيل بيتراشيفسكي الذي طالب بإصلاحات في المجتمع الروسي. كتب ميخائيل باكونين مرة إلى ألكسندر هيرزن يصف أن المجموعة كانت: “أكثر رابطة عديمة الضرر” وأعضائها كانوا “معارضين مُنظّمين لجميع الأهداف والمعاني الثورية”. واستخدم فيودور مكتبة الرابطة يومَي السبت والأحد، وشاركَ في بعض الأحيان في المناقشات التي تتم بشأن التحرر من الرقابة وإلغاء العبودية.
في 1849 نُشِر الجزء الأول من رواية نيتوتشكا نزفا نوفنا في المجلة، وقد كان يُخطّط لها منذ عام 1846، ولكن نفيه أنهى المشروع. ولم يحاول إكمال الرواية بعد ذلك.
كانت رابطة بيتراشيفسكي مجموعَة مناقشة أدبيّة فكريّة تُناقش قضاياها المُعاصرة في ذلك الوقت بشكلٍ شبه سرّي. وضمن المجموعة مُهندسين وأطباء وكُتّاب ومعلمين وطُلّاب ومسؤولين حكوميين وضبّاطٍ في الجيش. وقد اختَلفوا في وجهات نظرهم السياسية، بيد أن مُعظَهم كانوا مُعارضين للاستبداد القيصري والعبودية الروسية. قام أعضاء المجموعة باستنكار وتنديد أفعال إيفان ليبراندي وهو مسؤول في وزارة الشؤون الدولية. وقد اتُهمِ دوستويفسكي بقراءة الكتب والأعمال المحظورة والمساعدة في نشرها وتعميمها، بالأخص كتاب بلنسكي رسالة إلى غوغول. وكيل الحكومة والرجل الذي كتب تقريراً عن المجموعة، ذكر في بيانِه أنهم دائماً ما ينتقدون السياسة الروسيّة والدين. وقد ردّ فيودور عن هذا الادّعاء بقولِه أنه كان يقرأ مقالاتٍ وحسب وهي تتحدّث عن الشخصيّة والأنانية البشرية بشكلٍ عام وليس عن السياسة. في النهاية اعتُقِلَ هو وأعضاء المجموعة المُتآمرون على حدّ وصف الحكومة في 23 أبريل/نيسان 1849 بناءً على طلب الكونت أ. أورلوف وأمر القيصر نيكولاي الأول خوفاً من تَبِعات ثورة 14 ديسبمر في روسيا وثورات الربيع الأوروبي عام 1848. وقد احتَجِزَ الأعضاء في معقل بيتر وبول والتي كانت بدورها تضمّ أخطَر المُدانين.
استمرّت القضيّة محل تحقيق لأربع شهور من قبل لجنة تحقيق برئاسة القيصر مع الجنرال ايفان نابوكوف وعضو مجلس الشيوخ الكونت بافيل جاجارين والكونت فاسيلي دولجوروكوف والجنرال ياكوف روستوفتسيف ووالجنرال ليونتي دوبيلت رئيس الشرطة السرية. وحكموا على أعضاء المجموعة بالإعدام بإطلاق النار، وأُخِذَ السجناء إلى سيميونوف بلاس في سان بطرسبرغ لتنفيذ الحكم في 23 ديسمبر/كانون الأول 1849 حيث انقسموا إلى مجموعات من ثلاثة أفراد، وكان دوستويفسكي الثالث في الصف الثاني وبجانبه وقف بليششيف ودوروف جاهزين للإعدام. ولكن في آخر لحظة وقبل تنفيذ الحكم بحقهم صدر مرسوم قيصري يقضي باستبدال الإعدام بأربعة أعوام من الأعمال الشاقة في مقاطعة اومسك بسيبيريا.
خدم فيودور أربع سنين من السجن والأعمال الشاقة في معسكر سجن كاتورغا في أومسك في سيبيريا، تليها فترة الخدمة العسكرية الإلزامية. وبعد رحلة مدتها أربعة عشر يوماً وسط العواصف والثلوج، وصل السجناء إلى توبولسك المحطّة التي يرتاح فيها السُجناء، كانوا بائسين مُعدَمين، وحاول فيودور مواساتِهم، مثل إيفان ياسترزيمبسكي الذي فوجئ بطيبة دوستويفسكي وتخلى عن قراره بالانتحار. وفي توبولسك، تلقوا الأعضاء الطعام والملابس من النساء اللاتي كُنّ هناك، فضلاً عن عدة نسخ من العهد الجديد مع ورقة نقدية من عشرة روبل داخل كل نسخة. وبعد أحد عشر يوماً، وصل السجناء إلى أومسك وكان مع فيودور عضوٌ واحد من أعضاء رابطة بيتراشيفسكي هو الشاعر سيرغي دوروف. بعد سنين شرح دوستويفسكي إلى أخيه المعاناة التي تعرض لها ووصف له الثكنات العسكرية المتداعية:
وقد كانَ فيودور يُعتَبر من أخطر المُدانين، حيث كانت يديه وقدميه مقيدتين حتى تاريخ إعتاقه. ولم يسمح له إلا بقراءة كتاب العهد الجديد. وبالإضافة لنوبات الصرع التي كانت تأتيه، فقد أُصيبَ كذلك بالبواسير، وفقدان الوزن، وحمّى قوية. وكان رائحة المرحاض منتشرة بأرجاء المبنى، حيث كان هناك حمامٌ واحد يستخدمه أكثر من 200 شخص. كان فيودور يُنقَل للمشفى بين الحين والآخر حيث يتمكّن من قراءة الصحف الإخبارية وقراءة روايات ديكنز. وقد نال احترام معظم السجناء، واحتقار بعضهم الآخر بسبب تصريحات كراهيته للأجانب واليهود.
بعد إطلاق سراحه في 14 فبراير/شباط 1854، أرسل فيودور لأخيه ميخائيل طالباً منه مساعدةً ماليّة، وأن يُرسِل له كتب ومؤلّفات كل من فيكو وجيزو ورانكه وهيغل وكانت. وقد وصف حياته وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة في روايته بيت الموتى التي صدرت في 1861 في مجلّة Vremya وتُعتَبر أول رواية تتناول السجون الروسية والسجناء كموضوعٍ لها. لم تنتهي محكوميّة فيودور عند هذا الحد، فقد أُجبِر على الخدمة العسكرية والعمل في فيلق الجيش السيبيري من كتيبة الخط السابع، وقبل رحيلِه إلى سيميبالاتينسك حيث سيخدم هناك، التقى مع الجغرافي بيوتر سيميونوف والإثنوغرافي شوكان واليخانولي. وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1854 التقى البارون الكسندر إيغوروفيتش رانجل، وهو أحد الذين حَضروا عملية الإعدام الزائفة. وقد استأجر كلاهما منزل في حديقة القوزاق خارج سيميبالاتينسك. وقد وصف رانجل فيودور في تلك الفترة بأنه: “بدا عابساً مُتهجّماً، وجهه الشاحب مغطّى بالنمش كان متوسّط الطول، وينظر إليّ نظرة حادّة ثاقبة بعيونه الزرقاء الرماديّة تلك، كان كما لو كان يحاول النظر في روحي واكتشاف أي نوع من الرجل كنت.”
خلال خدمته في سيميبالاتينسك، أعطى فيودور دروساً خصوصيّة للعديد من الأطفال، وتواصَل مع عدد من عائلات الطبقة العليا، بما في ذلك أسرة المقدم بيليكوف الذي كان يدعوه لقراءة مقاطع من الصحف والمجلات. وخلال زيارته لعائلة بيليكوف، التقى دوستويفسكي عائلة الكسندر ايفانوفيتش إساييف وماريا دميتريفنا إيساييفا ووقع في حبّها. عُيّن ألكسندر ايزايف في وظيفة جديدة في كوزنتسك وتوفّي هناك في أغسطس/آب 1855. انتقلت ماريا وابنها الوحيد مع فيودور إلى بارناول. وقد حصل بطريقة ما على تصريح له بالزواج ونشر الكتب، بيد أنه سيبقى تحت مراقبة الشرطة لبقية حياته. تزوجت ماريا دوستويفسكي في سيميبالاتينسك في 7 فبراير/شباط 1857، على الرغم من أنها رفضت في البداية اقتراح زواجه، وذكرت أنه لا يعني لها شيئاً، وأن وضعه المالي السيء يحول دون ذلك. كانت حياتهما بشكلٍ عامٍّ معاً غير سعيدة، فقد كانت تجد صعوبة في التعامل مع نوباتِه التي تزداد بمرور الوقت. وفي وصفٍ لعلاقته معها، كتب فيودور: “بسبب شخصيّتها الغريبة والمرتابة والرائعة، لم نكن سُعداء معاً، ولكن لم يتوقّف الحب بيننا. وكلّما كنا أكثر تعاسة، كان الحب بيننا يزداد قوة”. في عام 1859، خرج من الخدمة العسكرية بسبب تدهور صحّته، وسُمِحَ له للعودة إلى روسيا، فعاد بدايةً إلى تفير حيثُ التقى بأخيه لأول مرة منذ 10 سنوات، ثم توجّه لسانت بطرسبرغ.
خلال فترة اعتقاله، كتب فيودور قصة واحدة كاملة فقط، وهي بطل صغير ونُشِرت في مجلة. حلم العم وقرية ستيبانشيكوفو لم تنشر حتى عام 1860. كما نُشِر في ذلك العام رواية بيت الموتى كذلك في مجلة Russky Mir. لتليها رواية مذلون مهانون التي تُشِرت في مجلة فريميا الجديدة، المجلّة التي كانت من تحرير فيودور نفسه ومن تمويل وشراكة أخيه ميخائيل.
سافَر فيودور إلى أوروبا الغربيّة لأول مرة في 7 يونيو/حزيران 1862، زار خلالها كولونيا، وبرلين، ودرسدن، وفيسبادن، بلجيكا، وباريس، ولندن. وقد قابل ألكسندر هيرزن في لندن وزار قصر الكريستال. وسافر مع نيكولاي ستراخوف في سويسرا مروراً بالعديد من مدن شمال إيطاليا بما فيها تورينو وليفورنو وفلورنسا. وقد دوّن انطباعاته عن تلك الرحلة في ذكريات شتاء عن مشاعر صيف، حيث انتقد في تلك المقالة الرأسمالة والتحديث والمادية والكاثوليكية والبروتستانتية، وظهر فيها مُقدِّمات أهم مبادئ فلسفته التي خلَّدها برواياته لاحقاً.
بدءاً من أكتوبر/تشرين الأول 1863، بدأ فيودور رحلةً أخرى إلى أوروبا الغربية. وقابل حبيبته الثانية بولينا سوسلوفا في باريس، وخسر تقريباً كُل أمواله التي راهن عليها في المقامرة في فيسبادن وبادن بادن. في عام 1864 توفيت زوجته ماريا وشقيقه ميخائيل، وأصبح دوستوفيسكي الوالد القانوني الوحيد لابن زوجته، والمنفق الوحيد لعائلة شقيقه. بعد فشل مجلّة Epoch التي أسّسها مع شقيقه وذلك بعد منع مجلة فريميا، ساء وضع فيودور المالي، وكان يحصل على مساعدات بسيطة من أقاربه وأصدقاءه منعاً للإفلاس الكامل.
أوّل جزئين من الجريمة والعقاب نُشِرا في يناير/كانوان الثاني وفبراير/شباط على التوالي في 1866 في دورية The Russian Messenger. مما أضاف على الأقل 500 مشترك جديد للدورية.
عاد فيودور إلى سان بطرسبرغ في منتصف سبتمبر/أيلول، وقابل رئيس التحرير فيودور ستيلوفسكي ووعده بأنه سيكمل المقامر وهي الرواية القصيرة التي كتبها عن مشاكل إدمان القمار. أحد أصدقاءه اقترح عليه توظيف سكرتيرة لديه، فتواصل فيودور مع بافل أليخين وهو كاتِبٌ اختزالي الذي أوصى بتلميذته البالغة 20 عاماً آنا غريغوري سنيتكينا، وساعدته على إنهاء المقامر خلال 26 يوماً من العمل. آنا تُعتَبر من أهم المؤرّخين لحياة فيودور، حيث أصدرت كتابين اثنين لحياته. تقول هي في مذكراتها، أن فيودور شاركها في حبكة رواية جديدة تخيليه، كما لو أنه كان يحتاج إلى نصحها في فهم نفسية الأنثى. في تلك الرواية، رسام كبير في السن يتقدم لخطبة فتاة صغيرة كان اسمها آنيا. سألها فيودور عما إذا كان من الممكن لفتاة صغير في السن مختلفة في الشخصية أن تقع في حب رسام. أجابت آنا أن ذلك ممكن جداً. ومن ثم قال فيودور لآنا: “ضعي نفسكِ في مكانها للحظة. تخيلي أني أنا الرسام، أنا أعترف وأطلب منك ان تكوني زوجتي. ماذا سيكون جوابك؟” أجابت آنا: “سأجيب بأني أحبك وسأحبك للأبد”.
في 15 فبراير/شباط 1867 تزوج دوستويفسكي سنيتكينا في كاتدرائية الثالوث في سانت بطرسبرغ. الـ7000 روبية التي جمعها دوستويفسكي من الجريمة والعقاب لم تُغطّي ديونهم، مما دفع آنا لبيع ممتلكاتها الثمينة. في 14 أبريل/نيسان 1867، بدأوا شهر عسلٍ متأخر في ألمانيا بالمال الذي كسبوه من البيع. أقاما في برلين، وزارا معرض جيمالديغاليري ألت مايستر في درسدن وتلك الزيارة التي كانت محلّ إلهامٍ لكتاباته. وأكملا رحلتهم عبر ألمانيا وزارا فرانكفورت ودارمشتات وهايدلبرغ وكارلسروه. وقضيا خمسة أسابيع في بادن بادن حيث تشاجر هناك مع إيفان تورغينيف ومرة أخرى خَسِر معظم أمواله في لعب الروليت.
في سبتمبر/أيلول 1867، بدأ فيودور بالعمل على الأبله، وبعد قضاءه فترة طويلة للتخطيط بحبكة الرواية، تمكّن من كتابة أوّل 100 صفحة في 23 يوماً فقط، وبدأت تُنشر في مجلة The Russian Messenger في يناير 1868.
انتقلا بعد بادن بادن إلى جنيف وعاشوا فيها لأكثر من سنة، وعمل فيودور بجد لإستعادة ثروته. في 22 فبراير/شباط 1868 ولدت ابنتهما الأولى صوفيا، ولكنها توفّيت بالالتهاب الرئوي بعد ثلاثة أشهر في 22 مايو. ثم غادرا جنيف متوجّهين نحو فيفي ثم إلى ميلانو قبل أن يواصلا سيرهم إلى فلورنسا، حيث أنهى رواية الأبله هناك في يناير 1869 ونُشِرت في المجلة في فبراير/شباط 1869. في 26 سبتمبر/أيلول 1869، في مدينة درسدن، رزقا بإبنتهم الثانية، والتي أسموها لوبوف دوستويفسكي. وقد تخلص فيودور دوستويفسكي من إدمانه للقمار بعد ولادة ابنته الثانية.
بعد أن سمع أنباء أن جماعة الثورية الاشتراكية قتلت أحد أعضائها وهي إيفان إيفانوف، في 21 نوفمبر 1869، بدأ دوستويفسكي كتابة الشياطين. في 1871، سافرت المجموعة بالقطار إلى برلين. في النهاية عادت العائلة إلى سانت بطرسبرغ في 8 تموز/يوليو، وهو ما يمثل نهاية شهر العسل الذي كان من المقرر أن يكون 3 شهور واستغرق أكثر من 4 سنوات.
بالعودة إلى روسيا إلى سانت بطرسبرغ عام 1871، واجهت العائلة من جديد مشاكِلَ ماليّة فاضّطروا لبيع ممتلكاتهم المُتبقية. في ذلك العام في 16 يوليو/حزيران، وُلِدَ الابن الثالث فيودور، ثم انتقلوا بعد ذلك بفترة للسكن في شقة بقرب المعهد التكنولوجي. وقد أَمِلوا بانتهاء ديونهم عن طريق بيع بيتهم في بيسكي، إلا أن انخفاض سعر العقار في ذلك الوقت أدّى لانخفاض سعر البيت، واستمرّت المشاكل مع الدائنين. واقترحت آنا جمع أموال حقوق الطبع والنشر لزوجها والتفاوض مع الدائنين لتسديد ديونها على أقساط.
قوّى دوستويفسكي صداقاته مع مايكوف وستراخوف وكوّن علاقات ومعارف جديدة، بما في ذلك سياسي الكنيسة تيرتي فيليبوف والإخوين الروائي فسيفولود والفيلسوف فلاديمير سولوفيوف. وقد أثر كونستانتين بوبيدونوستسيف، المفوض السامي الإمبراطوري المستقبلي للمجمع المقدس، أثّر على تطور وتقدّم دوستويفسكي السياسي لمبادئ المحافظين. وفي أوائل 1872، قضت الأسرة عدّة أشهر في ستارايا روسا وهي مدينة سياحيّة معروفة بمياهها المعدنيّة. وقد تأخر دوستوفيسكي في عمله بسبب وفاة شقيقة آنا إما بالملاريا أو التيفوس.
أنهى دوستويفسكي كتابَة الشياطين 26 نوفمبر/تشرين الثاني، وكانت الأسرة قد عادت إلى سانت بطرسبرغ سابقاً في سبتمبر، وقد صدرت الشياطين من قِبَل “شركة دوستويفسكي للنشر” التي أسّسها مع زوجته. كانت الطباعة تتم في شقّتهم، وكانوا لا يقبلون سوى المدفوعات النقدية المباشرة، وقد نجح عملهم هذا وباعوا حوالي 3000 نسخة من الرواية حيث أدارت آنا الشؤون المالية. واقترح فيودور إنشاء مجلّة جديدة تُسمّى مذكرات كاتب وتتضمن مجموعة مقالات، بيد أنّهم لم يستطيعا تحمّل كلفتها، فاتّفق فيودور مع الناشر والروائي فلاديمير ميششيرسكي على نشر المقالات في مجلة المواطِن بدءاً من يناير/كانون الثاني 1873 مقابل 3000 روبلة سنوياً. في صيف 1873، عادت آنا إلى ستارايا روسا مع الأطفال، وبَقي فيودور في سانت بطرسبرغ يعمل على المذكرات.
في مارس/آذار 1874، ترك فيودور مجلة المواطِن بسبب ضغط العمل الذي واجهه، وبسبب تدخل الحكومة الروسية البيروقراطية. وخلال الـ15 شهراً التي قضاهم في المجلّة، استُدعيَ لبلاط الحاكم مرّتان، في 11 يونيو/حزيران 1873 للإشارة إلى الأمير مشرشكي دون إذن، والثانية في 23 مارس/آذار 1874. عرض دوستويفسكي بيع رواية جديدة لم يبدأها بعد لمجلّة الرسول الروسي ولكنّهم رفضوا. وقد اقترح عليه نيكولاي نيكراسوف نشر مذكّراته في مجلة وطن الآباء، وقال أنّه سيحصل على 250 روبلة عن كل مقال، وهو أكثر بـ100 روبلة مما كان سيجنيه في مجلة الرسول الروسي وهذا ما حدث. بدأت صحّة فيودور بالتدهور في ذلك الوقت، ونصحه أطباء سانت بطرسبرغ بالخروج من المدينة للعلاج فهو غير متوفر فيها. وفي يوليو/حزيران تقريباً، التقى بطبيبٍ في إمس شخّص حالته بأن لديه التهاباً في القناة التنفسية. بدأ رواية المراهق، وعاد إلى سانت بطرسبرغ في أواخر يوليو.
اقترحت آنا قضاء الشتاء في ستارايا روسا ليرتاح فيودور هناك، على الرغم من أن الأطباء قد اقترحوا زيارة ثانية إلى إمس لأن صحته قد تحسنت سابقا هناك. في 10 أغسطس/آب 1875 ولد ابنه أليكسي في ستارايا روسا، وفي منتصف سبتمبر عادت الأسرة إلى سانت بطرسبرغ. أنهى روايته المراهق في أواخر عام 1875 وكانت بعض أجزاءها نُشِرت مسبقاً في مجلة Notes of the Fatherland في يناير من نفس العام. يتمحور سرد الرواية حول العلاقة بين الابن وأبيه والصراع بينهما، خاصةً الصراع الفكري، الذي يُمثِّل المعركة بين الفكر الروسي التقليدي في الأربعينيات من القرن التاسع عشر والفكر العدمي الصاعد بين الشباب الروسي في الستينيات وهو الموضوع الذي تكرّر في أعمال دوستويفسكي اللاحقة.
في أوائل عام 1876، واصل دوستويفسكي العمل على مذكراته. تضمن الكتاب العديد من المقالات والقصص القصيرة عن المجتمع والدين والسياسة والأخلاق. باعت المجموعة أكثر من ضعف عدد نسخ كتبه السابقة. وقد راسله عدد من القُرّاء أكثر من أي وقتٍ مضى، وزاره الناس من جميع الطبقات والأعمار والمهن، وزادت شهرته في كامل روسيا. وبمساعدة من شقيق آنا، اشترت الأسرة منزلاً في ستارايا روسا. في صيف عام 1876، بدأ دوستويفسكي يُعاني من ضيق في التنفس مرة أخرى. وقد زار إمس للمرة الثالثة وأخبره الطبيب أنه قد يعيش لمدة 15 عاماً آخر في حال انتقل لبيئة صحيّة أكثر. وعندما عاد إلى روسيا، طلب القيصر ألكسندر الثاني من دوستويفسكي زيارة قصره لمناقشة واستعراض مُذكّراته، كما طلب منه المكوث وتأديب وتعليم ابنَيه سيرغي وبولس. زادت هذه الزيارة من معارِف فيودور، وكان ضيفاً معتاداً في العديد من الصالونات الأدبية في سانت بطرسبرغ والتقى العديد من الناس الشهيرة، بما في ذلك الأميرة صوفيا تولستايا والشاعر ياكوف بولونسكي وسيرجي ويت والناشر والصحفي أليكسي سوفورين وأنتون روبنشتاين وإيليا ريبين.
تدهورت صحّة فيودور أكثر فأكثر، وفي مارس/آذار 1877 أصابته أربعة نوبات صرع. وبدلاً من العودة إلى إمس، زار مالي بريكول وهي مزرعة بالقرب من كورسك. أثناء عودته إلى سان بطرسبرغ لإنهاء مذكراته توقّف قليلاً في بلدة داروفوي المكان الذي نشأ فيه. وفي ديسمبر/كانون الأول من نفس العام، حضَر جنازة نيكراسوف وألقى خطبة التأبين الرئيسية، والتي أكد فيها أن نيكراسوف كان أعظم شاعر روسي منذ ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمنتوف. وقد عُيّن عضواً فخرياً في الأكاديمية الروسية للعلوم، وحصل على شهادة فخرية منها في فبراير/شباط 1879. انتقلت العائلة لاحقاً إلى الشقة التي كتب دوستويفسكي فيها أعماله الأولى. وفي تلك الفترة، انتخب عضواً في مجلس إدارة الجمعية السلافية الخيرية في سانت بطرسبرغ. وفي ذلك الصيف، انتخب عضواً في اللجنة الفخرية لرابطة ليترير وأرتيستيك إنترناتيونال والتي تضمّ أعضاءً مثل فكتور هوغو وإيفان تورغينيف وبول فون هايس وألفريد تنيسون وأنتوني ترولوب وهنري وادزورث لونغفيلو ورالف والدو إمرسون وليو تولستوي. وقد كانت زيارة دوستويفسكي الرابعة والأخيرة لـِ إمس في أوائل أغسطس/آب 1879. وشُخّص بأن لديه انسداداً رئوياً مزمناً، وقد اعتقد طبيبه بإمكانية علاجه، ولكن لم يتم ذلك.
في 3 فبراير/شباط 1880، انتُخِب دوستويفسكي نائباً لرئيس الجمعية السلافية الخيرية، ودعي لإلقاء خطاب في الكشف عن نصب بوشكين التذكاري في موسكو، وهو الخطاب الذي ألقاه على شرف الشاعر الروسي ألكسندر بوشكين. وقد ألقى خطابه في 8 يونيو/حزيران وكان له أثر عاطفي كبير لدى المستمعين بسبب أداءه، وقد قوبِلَ خطابه بتصفيق حار، وحتّى منافسه التقليدي تورغينيف أثنى عليه. وقد نشر الكاتب كونستانتين ستانيوكوفيتش مقالاً بعنوان “ذكرى بوشكين وخطاب دوستويفسكي” في مجلة Delo وقال فيها: “لغة دوستويفسكي [في الخطاب] لغةٌ خطابيّة حقيقيّة، يتكلّم بلهجة وثقة رسول مُرسَل، بلغةٍ عميقةٍ وصادقة، استطاع من خلالها إيصال المشاعر للمستمعين”. انتُقِدَ الخطاب لاحقاً من قِبَل عالم السياسة الليبرالية ألكسندر غرادوفسكي الذي وصف دوستويفسكي بأنه معبود الشعب، والمفكر المحافظ كونستانتين ليونتيف الذي قارن الخطاب بالاشتراكية اليوتوبية الفرنسية في مقاله “حب عالمي”. أدى ذلك النقد الحاد لازدياد حالته سوءاً.
في 26 يناير/كانون الثاني 1881، عانى فيودور تمزّقاً رئوياً حاد، كان ذلك بعدَ يومٍ من القبض على جار دوستويفسكي الذي انتمى لمنظّمة نارودنايا فوليا التي قامت باغتيال القيصر ألكسندر الثاني. وبعدَ نزفٍ ثانٍ، تواصلت زوجته آنا مع الأطباء الذين لم يفهموا علّته، ثُمّ تَبِع ذلك نزيف ثالث بوقت قصير.
فارَق فيودور دوستويفسكي الحياة في 9 فبراير/شباط 1881 مُتأثّراً بمرضه. وكانت آخر كلماته ما اقتَبسه من إنجيل متى الإصحاح 3: 14-15 “وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلاً: «أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ، وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ!». فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ: «اسْمَحِ الآنَ، لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِرّ». حِينَئِذٍ سَمَحَ لَهُ.” وعندما توفّي وُضِعت جثّته على الطاولة وفقاً للعادات الروسيّة. وقد دُفِنَ في مقبرة تيخفين في دير القديس ألكسندر نيفسكي في سانت بطرسبرغ بالقرب من الشاعرين نيكولاي ميخائيلوفتش كرامزين وفاسيلي جوكوفسكي. ومن غير الواضح تاريخيّاً كم شخصاً حضر جنازته. ووفقاً لما ذكره أحد الصحفيين فإن أكثر من 100 ألف من المشيعين كانوا حاضرين، بينما يصف آخرون أن الحضور كان بمدى 40 إلى 50 ألف. وقد نُقِشَت على شاهد قبره اقتباس من إنجيل يوحنا الإصحاح 12:24:
حياته الشخصية
أولى علاقات فيودور المعروفة كانت مع فتاة تُدعى أفدوتيا ياكوفليفنا التي التقى بها في جمعية بانايف أوائل عقد الأربعينات 1840. وقد وصفها بأنها تلميذة مُتعلّمة مهتمة بالأدب وأنها امرأة فاتنة لعوب. وقد قال في وقتٍ لاحق علاقتهما غير واضحة وغير متأكد منها. ووفقاً لمذكّرات آنا عن زوجها، بأنه قد طلب الزواج منها مرّة ولكنها رفضت. وكانت عشيقة دوستويفسكي الثانية هي الكاتبة بولينا سوسلوفا وكانت علاقة قصيرة ولكنّها حميميّة بلغت ذروتها في شتاء 1862-1863. التقت سوسلوفا به في إحدى المحاضرات التي كان يُلقيها حيث كانت محاضراته تحظى بشعبية كبيرة بين الشباب. في ذلك الوقت، كان دوستويفسكي في الـ40، وكانت هي في الـ21. وكانت العلاقة صعبة ومؤلمة لكلا الطرفين، خاصة دوستويفسكي. حيث كان مُرهقاً وقواه مستنزفة من العمل وحالته الصحيّة والمالية سيئة. وكانت سوسلوفا متعجرفة وغيورة، وكانت تُطالبه باستمرار تطليق زوجته ماريا. وبعد وفاة ماريا في عام 1865، طلب الزواج منها لكنها رفضت. وعلى عكس زوجته الثانية آنا، نادراً ما كانت سوسلوفا تقرأ كتبه، ولم تحترم أعماله، وبعد انفصالهم حرقت كُل الرسائل بينهما. وقد وصفها دوستويفسكي في إحدى رسائله بأنها أنانية ومغرورة، وبعدها ذكر: “ما زلت أحبها، ولكن لن أحبها أكثر من ذلك، فهي لا تستحق هذا”.
في عام 1858 أحبت دوستويفسكي الممثلة الهزلية أليسكاندرا إيفانوفنا شوبرت، وكانت قد انفصلت عن صديقه ستيبان يانوفسكي لتوّها. لم يبادلها دوستويفسكي نفس الشعور ولكنّهما كانا صديقين جيّدين. وخلال عمله في مجلة Epoch تعرّف على مارثا براون، وعلاقته معها عُرِفَت فقط من خلال الرسائل المكتوبة بين نوفمبر 1864 و يناير 1865. وفي عام 1865، التقى دوستويفسكي بالناشطة النسوية والاشتراكية آنا كورفين، لم يتم معرفة طبيعة علاقتهم، وقالت زوجته آنا أنها كانت علاقة جيّدة، بينما قالت شقيقة كورفين أنها رفضته.
قرأ دوستويفسكي في شبابه تاريخ الدولة الروسية للمؤرّخ الروسي نيكولاي ميخائيلوفتش كرامزين، الذي أشادَ بمبادئ المُحافظين وباستقلالية وسيادة الدولة الروسيّة، وهي الأفكار التي تبنّاها فيودور في وقتٍ لاحق. وقبل اعتقاله بسبب رابطة بيتراشيفسكي التي كان أحد أعضائها عام 1849، ذكر دوستويفسكي أنه “ليس هناك فكرة أسخف من أن تكونَ الحكومة جمهورية في روسيا”. وفي عام 1881، في مُذكَراته ذكر دوستويفسكي أن الشعب والقيصر يجب أن يكونوا صفّاً واحداً: “بالنسبة للشعب، القيصَر ليس سلطة خارجيّة، ليس سُلطة لبعض الناس بل هو قوّة وسلطة لجميع الناس، وهي قوة لتوحيد جميع الناس”.
في الوقت الذي انتقد فيه القنانة، كان مُتشككاً حول إنشاء الدستورية الملكية واعتبره مفهومًا دخيلًا على الثقافة ولا علاقة له بالتاريخ الروسي. ووصفه بأنه “سلطة النبلاء” وأن الدستور “سيستعبد الناس أكثر بكل بساطة”. ودعى للإصلاح الاجتماعي بدلاً من ذلك، فمثلاً إزالة النظام الإقطاعي وتقليص الفروقات بين طبقة الفلّاحين والطبقة الغنية. أفكاره كانت يوتيوبية ذو نزعة دينية مسيحية نوعاً ما: “إذا كان الجميع مسيحيين، سيتم حل جميع المشاكل والمسائل”. كما اعتقدَ أن الديمقراطية والأوليغاركية أنظمة سيئة، وكتب بخصوص فرنسا: “الأوليغاركية تهتم فقط بمصلحة الأثرياء بدرجة أولى، أما الديمقراطية تهتم بمصلحة الفقراء فقط؛ ولكن مصلحة المجتمع، ومصلحة فرنسا ومستقبل فرنسا بأكمله لا أحد يُزعج نفسه بالتفكير بهذه الأمور”. وأكد أن الأحزاب السياسية أدت في النهاية إلى خلافات اجتماعية. وفي ستينيات القرن التاسع عشر، اكتَشَف حركة البوكفنيتشيستفو وهي حركة شبيهة بالسلافوفيليا في رفضها للثقافة الأوروبية والحركات الفلسفية المعاصرة مثل العدمية والمادية. اختلفت البوكفنيتشيستفوتية عن السلافية في كونها تحاول جعل روسيا بلداً أكثر انفتاحاً وجعل روسيا دولة أوروبية سياسياً وثقافياً كما حاول بطرس الأكبر فعله.
في مقالته غير المكتملة “الاشتراكية والمسيحية” زَعم دوستويفسكي أن الحضارة -“المرحلة الثانية من تاريخ البشرية”- قد تدهورت وأنها تتوجّه نحو الليبرالية بخطى متسارعة وتفقد إيمانها بالله. وأكد أنه ينبغي استعادة المفهوم التقليدي للمسيحية. واعتبر أن هذه الأزمة هي نتيجة للاصطدام بين المصالح الطائفية والفردية، الناجمة عن تراجع المبادئ الدينية والأخلاقية. كانت هناك ثلاث أفكار سائدة في عصره، الكاثوليكية الرومانية والبروتستانتية والأرثوذكسية الروسية. بالنسبة للكاثولوكية الرومانية قال بأنها واصلت التقاليد الإمبراطورية الرومانية وأصبحت بالتالي مُعادية للمسيحية حيث أن اهتمام الكنيسة في الشؤون السياسية والدنيوية أدى إلى التخلي والبعد عن فكرة المسيح. وبالنسبة له، كانت الاشتراكية “أحدث تجسيد للفكرة الكاثوليكية” و “حليفها الطبيعي”. ووجد البروتستانتية متناقضة، وادّعى أنها ستفقد السلطة والروحانية في نهاية المطاف. واعتبر أن الأرثوذكسية الروسية هي الشكل المثالي للمسيحية.
خلال الحرب الروسية التركية، أكد دوستويفسكي أن الحرب قد تكون ضرورية إذا كان من وراءها الحرية والخلاص. وأعرَب عن أمله في استعادة الإمبراطورية البيزنطية المسيحية، وفي تحرير السلاف البلقان وتوحيدهم مع الإمبراطورية الروسية وهزيمة الدولة العثمانية. كما يُظهِر في كتاباته سواءً كانت روايات أو مقالات معاداة للسامية، وفي أحيانٍ أخرى يكتب عن اليهود ويدافع عنهم. وكثيراً ما أظهر مُذكّراته تلك المُعاداة.
كان دوستويفسكي مسيحياً أرثوذكسياً، نشأ في أسرة دينية وعرف وتعلّم الإنجيل من سن مبكرة. وقد تأثّر بترجمة يوهانس هوبنر للإنجيل مئة وأربع قصص خفية في العهد القديم والجديد للأطفال. وكان يحضر الكنيسة أيام الأحد بانتظام في سنّ مبكرة كذلك، ويشارك في الزيارة السنوية إلى دير سانت سيرجيوس. وعلمه الشماس الذي كان في المشفى تعاليم دينه. من بين ذكريات طفولته كانت الصلوات التي كان يقرأها أمام الضيوف ويقرأها من سفر أيوب عندما كان صغيراً.
وفقاً لأحد الضباط في الأكاديمية العسكرية، كان دوستويفسكي مُتمسّكاً بدينه، يتبع الممارسة الأرثوذكسية، ويقرأ بانتظام الأناجيل، ويقرأ كذلك كتاب هاينريش زكوك «ساعات العبادة» Die Stunden der Andacht وهو كتاب ديني خالٍ من الأوامر العقائدية ويركّز فقط على حب المسيح وتطبيق حبه في المجتمع. هذا الكتاب لاحقاً أثّر في آراءه الاشتراكية المسيحية. من خلال تجميعه لآراء هوفمان وأوجين سو وبلزاك وغوته ورأيه الخاص، صنع لنفسه مذهباً دينياً خاصاً على غرار الطوائف المسيحية الأخرى. وبعد اعتقاله وسجنه، ركز بشكل مكثف على شخصية المسيح وعلى العهد الجديد، وهو الكتاب الوحيد المسموح به في السجن. في رسالة يناير/كانون الثاني 1854 إلى المرأة التي أرسلت له العهد الجديد، كتب دوستويفسكي: “أنا كطفل شكّاك ليس لدي إيمان حتى اللحظة، وأوقن بأني سأبقى كذلك إلى القبر ولو أثبت لي شخص ما أن الحقيقة ليس المسيح، يجب أن أختار البقاء مع المسيح بدلاً من الحقيقة”.
خلال مكوثه في سيميبالاتينسكي، عاد إيمان دوستويفسكي لقلبه بعد تأمله المتواصل في السماء. وقد وصفه صديقه رانجل بقوله: “لم يذهب إلى الكنيسة في تلك الفترة، وكره الكهنة وخاصة السيبيريين منهم، لكنه كان يتحدث عن المسيح بشكل مطرد.” وقد تعرّف دوستويفسكي على الإسلام وطلب من أخيه إرسال نسخة من القرآن الكريم له. من خلال زياراته إلى أوروبا الغربية ومناقشاته مع هيرزين وغريغوريف وستراخوف تعرّف على حركة البوكفنيتشيستفو ونظرية أن الكنيسة الكاثوليكية قد اعتمدت مبادئ العقلانية والقانونية والمادية والفردانية من روما القديمة ومررتها للبروتستانتية وبالتالي إلى الاشتراكية الإلحادية.
المصدر: ويكيبيديا الموسوعة الحرة برخصة المشاع الإبداعيالجريمة والعقاب (بالروسية: Преступление и наказание) هي رواية اجتماعية-نفسية واجتماعية-فلسفية ضمن أدب الجريمة من تأليف الروائي الروسي فيودور دوستويفيسكي. نُشرت الرواية لأول مرة في المجلة الأدبية الرسول الروسي عام 1866 على شكل سلسلة أدبية بحلقات متسلسلة على 12 شهرا بعد سنة، تم نشر طبعة منفصلة ومحسنة الهيكل عن إصدارات المجلة الأدبية ضمت اختصارات وتغييرات أسلوبية أدرجها المؤلف ضمن إصدار الكتاب. تعد الرواية ثاني أطول روايات دوستويفيسكي بعد عودته من منفاه في سيبيريا وأفضل رواياته خلال فترة نضجه الأدبي، كما تصنف واحدة من أعظم الأعمال الأدبية في التاريخ.
نمت فكرة “الجريمة والعقاب” عند ديستوفسكي لسنوات عدّة وكان موضوعها الرئيسي هو الفكرة لدى بطل الرواية عن الفرق بين الأشخاص “العاديين” و”غير العاديين” وترتبت الفكرة بشكل شبه كامل عندما كان في إيطاليا في العام 1863 حيث بدأ العمل على الرواية من خلال جمع المسودات غير المكتملة التي وضع بها الخطوط العريضة لقصّة الرواية. تحكي الرواية عن عائلة مارميلادوفوكان المخطط الأساسي للرواية هو الاعتراف بالجريمة من قبل مرتكبها قبل أن تتوسع الخطة لتشمل جريمة قتل قام بها الطالب روديون راسكولينكوف حيث قتل مُقرضاً قديماً للمال لأجل إنقاذ أحبائه، في هذا الوقت لم تعد قصة الجريمة هي الموضوع الوحيد للراوية لكن أيضاً الظروف الإجتماعية والنفسية التي تدفع الشخص لارتكاب الجرائم إضافة للخوض في العمليات المعقدة التي تحدث في النفس البشرية. الرواية تصوّر مدينة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تملؤها الصراعات. أعاد العمل إنتاج طبوغرافية سانت بطرسبورغ.
سبَّبَ نشر “الجريمة والعقاب” في جدال عاصف في المجتمع الأدبي في روسيا؛ تراوحت آراء المراجعين بين من رفضها بشكل كامل وبين من رحَّبَ بالعمل. قام معاصرو دوستويفسكي مثل ديمتري بيساريف ونيكولاي ستراخوف ونيكولاي أخشاروموف بتحليل أساسي للعمل. تُرجم العمل في ثمانينيات القرن التاسع عشر إلى الفرنسية والألمانية والسويدية والإنجليزية والبولندية والمجرية والإيطالية والدنماركية والنرويجية والفنلندية حيث كان للرواية تأثير كبير على الحركة الأدبية العالمية خصوصاً في الأدب الفرنسي والإيطالي والألماني، ظهرت سلسة روايات كومبانيون (بالإنجليزية: Companion Novels) واستمروا في تطوير الموضوع الذي وضعه دوستويفسكي إضافة للأثر الكبير الذي تركته الرواية على علم النفس وباحثيه مثل سيغموند فرويد الذي شكلّت أعمال ديستوفسكي عموماً والجريمة والعقاب خصوصاً أساساً لمُعالجته مرض الصرع. عُرضت الرواية عدّة مرات من خلال الأفلام أو لمسلسلات وقد ظهرت العروض الأولى في ثمانينيات القرن التاسع عشر وأول إنتاج مسرحي في روسيا كان عام 1899 وقُدمت أول نسخة مسرحية أجنبية في باريس عام 1888 وصُورتْ.
بداية الفكرة
الرحلة من الفكرة إلى التجسيد
بدأت فكرة العمل حول مفهوم “الشخصية القوية” غير الخائفة من الندم والأحكام البشرية، نضجت هذه الفكرة خلال عمل ديستوفسكي في الأشغال الشاقة وقد بعث رسالة إلى شقيقه في عام 1859 قال له فيها أنّه “يخطط للبدء في رواية في المستقبل القريب”. تشكلت معالم الرواية الرئيسية عندما كان ديستوفسكي في حالة حزن شديدة وانهيار ذاتي وكان ملازماً لسريره أغلب الأوقات، وقد اتضح للكاتب أن الانتقال من الفكرة إلى التنفيذ أطول مما توقع خاصةً في بناء خصائص ذلك الشخص الذي “يستطيع أن يقود نفسه إلى ما لا نهاية”، في بداية الأمر أعطى الكاتب بطل الرواية خصائص من قصته ملاحظات من بيت الموتى.
في صيف عام 1865 كان ديستوفسكي يعاني من وضعٍ ماليٍ صعب فلجأ إلى ناشر مجلة ملاحظات محلية أندريه كريفسكي وطلب أن يُقرضه مبلغاً قدره 3000 روبل مقابل رواية السكران (بالروسية: Пьяненькие) التي سيكتبها والتي حددت مخططاً لقصّة مرتبطة بـ “صور الحياة” للعائلة مارميلادوف، وقد أرسل دوستويفسكي اقتراحًا مشابهاً إلى فالنتين كورش محرر مجلة سانت بيتربورغسكي فيدمستي ووعد الناشرين بتقديم المخطوطة النهائية للرواية في موعد أقصاه أكتوبر من نفس السنة لكن طلب ديستوفسكي جاء بالرفض من الجهتين. نتيجةً لذلك لجأ ديستوفسكي للناشر فيودور ستيلوفسكي وأعطاه جميع حقوق نشر أعماله المجموعة في ثلاث مجلدات ليحصل على المبلغ المطلوب إضافةً لحصول ستيلوفسكي على وعد من فيودور ميخائيلوفيتش ديستوفسكي يقضي بأن يكتب له رواية جديدة في مدّة أقصاها شهر نوفمبر من العام 1866 ستسمى لاحقاً بـالمقامر.
أتاح هذا الاتفاق لديستوفسكي تسديد ديونه والذهاب إلى الخارج، وهناك زادت أوضاع ديستوفسكي المالية سوءًا، حيث خسر الأموال وبعض أغراضه الشخصية خلال خمسة أيام عندما كان يتردد على الكازينوهات في فيسبادن وقد وجه رسالة إلى أبولينيرا سوسلوفا في أغسطس من العام 1865 كتب فيها عن حرمانه من وجبات الطعام وباقي الخدمات التي يقدمها الفندق:
إنهم لا يقومون بتنظيف ملابسي حتّى ولا يأتون إلى غرفتي أو يردوا على حديثي معهم.
في هذا الجو، بدون مال ولا طعام وحتّى ضوء، بدأ ديستويفسكي بالعمل على رواية “الجريمة والعقاب”، وحسب الناقد ليونيد غروسمان، فإن الأفكار التي احتاجت أوقات طويلة للنضج اكتملت في وضع الإنهيار المالي، حيث قدمت للكاتب مزيجاً جديداً وأوضحت له فكرة التكوين الإجرامي.
اقترح دوستويفسكي في سبتمبر من العام 1865 على محرر مجلة الرسول الروسي ميخائيل كاتكوف أن ينشر عمله الجديد في صفحات من أعداد المجلة قائلاً إن العمل الذي بدأه كان “سرداً نفسياً لجريمة واحدة”:
صفحة من مفكرة ديستوفسكي تحتوي على فكرة الجريمة والعقاب
النص حديث كتبته هذا العام يحكي قصة شاب مطرود من الجامعة يُقرر قتل امرأة عجوز تُقدم المال مقابل فائدة. إضافة إلى ذلك فإن قصتي تحتوي إضاءة على فكرة أن العقوبة القانونية المفروضة على جريمة ما هي أقل تخويفاً بالنسبة للمجرم مما يعتقده رجال القانون، لأنّه هو نفسه يطلبها أخلاقياً.
أرسل كاتكوف 300 روبل إلى ديستوفسكي في فيسبادن لكن الأموال وصلت متأخرة حيث كان ديتسوفسكي قد عاد إلى روسيا ويتابع العمل على “الجريمة والعقاب” في سانت بطرسبورغ. في شهر نوفمبر 1865 لم يقتنع ديستوفسكي بعمله في أحد المسودات فقام بحرقها وأعاد العمل من جديد، وبعد شهر قدم لكاتكوف أول سبع أوراق في الرواية إضافة إلى إرساله العمل “للنشرة الروسية” على أجزاء. كتب في إحدى رسائله:
أنا جالس في العمل مثل المحكوم عليه، طوال الشتاء لم أذهب إلى أي مكان، لم أر أي شخص أو أي شيء، ذهبت إلى المسرح مرة واحدة فقط، وسأبقى هكذا حتى نهاية الرواية – إذا لم يضعوني في دائرة الديون.
قصة الإبداع
من خلال مسودات ديستوفسكي يُمكن ملاحظة مرور “الجريمة والعقاب” بثلاث مراحل إبداعية رئيسية، بدأ العمل في غرفة الفندق في فيسبادن بصورة اعتراف رجل بارتكاب جريمة. كان السرد بضمير المتكلم “أنا في محاكمة وسأقول كل شيء، أنا أكتب لنفسي وأُريد من الآخرين أن يقرؤوا أيضا.” خضع العمل لعدّة تغيرات في الفكرة وضُمّنت أجزاء من الرواية غير المكتملة “السكران” في المخطوطة. وفي هذه المرحلة جُمع بين قصتين مختلفتين -المحكوم عليه وعائلة مارميلادوف- وأيضا لم تنلْ رضا فيودور ميخائيلوفيتش مما جعله ينتقل إلى الإصدار الثالث والأخير من الجريمة والعقاب، وقد كتب ملاحظة لنفسه: “أنا أتكلم بنفسي ولا أتكلم عنه، من الضروري الافتراض أن المؤلف مخلوق كلي العلم ولا يخطئ”.
لم يكن للشخصية الرئيسية في الرواية لقب واضح في الإصدار الأول للعمل، وقد أُطلق عليه فاسيلي وفاسيوك بناءً على اقتراح صديق ديستوفسكي رازرزميخين. سُميَّ المحقق في جريمة القتل باسم بورفيري ستيبانوفيتش، ثم تغير اسمه ليصبح بورفيري فيليبيفيتش سيميونوف. أيضا من بين الشخصيات كانت الابنة الصغيرة ليزافيتا سياسيا التي تربطها علاقة حميمة بالمجرم أمّا سونيا فقد ظهرت في وقت لاحق في ملاحظات منفصلة، كانت البطلتان جنبًا إلى جنب، ولكن بعد ذلك تم استبعاد سياسيا من الرواية. كان سفيدريجيلوف (المسمى في البداية أريستوف) في المسودة الأولى لدفاتر الملاحظات شخصية عرضية أبلغ البطل بأنه يعرف اسم المجرم.
ربّما استوحى ديستوفسكي فكرة “الجريمة والعقاب” من خلال محاكمة جيراسيم تشيستوف البالغ من العمر سبعةً وعشرين عاماً وهو ممثل لعائلة تجارية كبيرة قام بقتل إمرأتين كبيرتين في السن باستخدام فأس في يناير من العام 1865 ثم أخذ المال والأشياء الثمينة وخرج من المنزل.
بدأت محاكمة تشيستوف في أغسطس من نفس العام وكان ديستوفسكي على دراية بالتفاصيل الكاملة لمحضر التحقيق. وفقاً لليونيد غروسمان “يمكن لمواد هذه العملية أن تعطي دفعة لخياله الفني في المرحلة الأولى” من العمل في الرواية.
وصول فيودور ميخائيلوفيتش للإجابة عن سؤال: لماذا قام راسكولينكوف بقتل العجوز؟؛ كان وصولاً شائكاً وقد كتب رسالة لكاتكوف عللّ فيها أفعال البطل “بالحساب البسيط” حيث قرر البطل قتل امرأة عجوز صماء وغبية من أجل إتاحة فرصة للأشخاص اللذين يعانون من اضطهادها وقد كان البطل واحداً منهم مع أُمه وأخته. في النسخة الثانية أيضاً كان هناك شيء من الصفات الخاصة بالشخصية:
أستولي على السلطة، وأكتسب القوة سواء كانت عن طريق المال أو القوة، وليس من أجل الشر. بل لأجلب السعادة لنفسي
وفي النسخة النهائية تم التعبير عن فكرة نابليون التي يمتلكها راسكولينكوف والمتمثلة بتقسيم البشرية إلى “مخلوقات خائفة” و”أسياد”.
الكتابة
توصل دوستويفسكي إلى فكرة الجريمة والعقاب في صيف عام 1865. كان في هذا الوقت مديناً بمبالغ ماليّة كبيرة للدائنين وكان يحاول مساعدة عائلة أخيه ميكائيل الذي مات في أول عام 1864. عرض دوستويفسكي قصته على الناشر ميكائيل كاتكوف والذي كانت مجلته الشهرية الرسول الروسي مجلة ذات قيمة كما كانت بداية ظهور ليو تولستوي وإيفان تورجينيف. إلا أن دوستويفسكي كان قد خاض مناقشة مؤلمة مع كاتكوف في أوائل 1860، لذا فقد فضل عدم نشر أي شئ في صفحاتها. إلا أنه وكما أجبره الموقف حيث لم تتلق روايته القبول في أي مكان آخر، اتجه دوستويفسكي إلى كاتكوف كملاذ أخير. في خطاب إلى كاتكوف كتبه في سبتمبر من عام 1865، شرح دوستويفسكي أن العمل سيكون حول شاب يخضع إلى أفكار غريبة معينة غير منتهية إلا أنها لا تزال تحوم في الأجواء، لذا فقد قرر خوض خطته لاستكشاف المخاطر الأخلاقية والنفسية لأيدولوجية “التطرف”. في الخطابات المكتوبة في نوفمبر من عام 1865 حدث تغير مفهومي هام وهو أن “القصة” أصبحت “رواية” ومن هذه اللحظة فصاعداً سيُشار إليها بأنها رواية الجريمة والعقاب. كان على دوستويفسكي أن يسابق الزمن لينهي من المقامر والجريمة والعقاب في الوقت المحدد. كانت أنا سنيتكينا عوناً كبيراً له في مهمته الصعبة، والتي كانت كاتبة بالخط المجموع وستُصبح لاحقاً زوجته الثانية. نُشر الجزء الأول من الجريمة والعقاب في يناير 1866 في الرسول الروسي، ونُشر الجزء الثاني في ديسمبر 1866.
في الإصدار الكامل لأعمال دوستويفسكي والمنشور في الإتحاد السوفيتي، قام المحررون بإعادة تجميع وطباعة الدفتر الذي احتفظ به الكاتب طوال فترة كتابته للجريمة والعقاب. بسبب هذه الأعمال، هناك حاليا كتابات متقطعة من القصة بالإضافة إلى إصدارين آخرين للنص. عُرفت هذه الإصدارات بإصدار فيسبادن وإصدار بيتسبيرج والخطة الأخيرة. يركز إصدار فيسبادن بشكل كامل على ردات الفعل الأخلاقية والنفسية للراوي بعد القتل لذا فهو يتشابه تماما مع القصة التي وصفها دوستويفسكي في خطابه إلى كاتكوف.
الحبكة
روديون رومانوفيتش راسكولنكوف هو طالب حقوق سابق يعيش في فقر شديد في حجرة صغيرة بالإيجار في سانت بيترسبيرج. تخلي راسكولنكوف عن كل محاولاته في إعالة نفسه ورسم خطة لقتل وسرقة المرابية العجوز إيلينا إيفانوفنا. أثناء التفكير في خطته، تعرف على سيميون زاخاروفيتش مارميلادوف وهو سكير قام بتبديد ثروة عائلته الصغيرة. يخبره مارميلادوف عن ابنته المراهقة سونيا والتي قررت أن تصبح عاهرة لتعول العائلة. يتلقى راسكولنكوف رسالة من والدته تتحدث فيها عن قدومهم لزيارته في سانت بيترسبيرج وتشرح مشكلة أخته دونيا والتي تعمل مدبرة منزل ورئيس العمل سئ النية. للهرب من موقفها الصعب وأملا في مساعدة أخيها، اختارت دونيا الزواج من عاشق غني. غضب راسكولنيكوف بشدة داخليا من تضحيتها حيث شعر بأنها فعلت مثل ما كانت سونيا مجبرة أن تفعله.
بعد الكثير من التأني، تسلل راسكولنكوف إلى شقة أليونا إيفانوفنا حيث قتلها بفأس كما قتل أيضا أختها نصف الشقيقة ليزافيتا والتي كانت شاهدة على مسرح الجريمة مصادفة. لصدمته من فعلته، لم يستطع سرقة سوى حفنة من الأشياء وحقيبة صغيرة تاركا الكثير من ثروة المرابية كما هي. يهرب راسكولنكوف بعد ذلك وبسبب تسلل من الأحداث يستطيع الهرب دون أن يراه أحد.
بعد جريمة القتل غير المتقنة، أصيب راسكولنكوف بحالة حمى وبدأ القلق بشدة حيال القتل. خبأ راسكولنكوف الأشياء المسروقة والحقيبة تحت صخرة وحاول بيأس أن ينظف ملابسه من الدماء أو من أي أدلة ثم أصيب بالحمى لاحقا في هذا اليوم بعد أن اتصل بصديقه القديم رازوميخين. مع قدوم وذهاب الحمى في الأيام التالية تصرف رازوميخين كما لو كان يريد خيانته حيث أظهر ردود أفعال غريبة لأي ذكر لقتل المرابية والذي أصبح حدثا في المدينة وانتشر الحديث عنه. في هذيانه أخذ راسكولنكوف يمشي في شوارع سانت بيترسبيرج حيث جذب الانتباه إليه أكثر وأكثروعن علاقته بالجريمة. في أحد مرات مشيه في المدينة التقى بمارميلادوف الذي ضربته حافلة على نحو قاتل. أسرع راسكولنكوف لمساعدته ونجح في نقله إلى شقة عائلته حيث يموت مارميلادوف بين أيدي ابنته سونيا وهو يطلب منها أن تسامحه. يعطي راسكولنكوف آخر عشرين روبل معه (من المال الذي أرسلته له والدته) إلى زوجة مارميلادوف المصابة بالسل كاترينا إيفانوفنا قائلا أن هذا رد لدين صديقه.
في الوقت نفسه تصل والدة راسكولنكوف بلخريا ألكسندروفا وأخته أفدوتيا رومانوفنا (دونيا) إلى المدينة. كانت دونيا تعمل مدبرة منزل حتى هذه اللحظة لكنها أجبرت لكونها كبيرة العائلة على الزواج من إيفانوفتش. كان إيفانوفيتش رجلا متزوجا ثريا لكنه كان منجذبا إلى جمال جسد دونيا وإلى صفاتها الأنثوية وعرض على دونيا الثراء والهروب معها. بخزي، هربت دونيا وخسرت مصدر دخلها فقط لتقابل بيوتر بيتروفيتش وهو رجل ذو دخل محدود. كان بيتروفيتش قد تقدم للزواج من دونيا وبالتالي سيؤمن لها ولعائلتها أمانا ماديا بشرط أن تقبله سريعا وبدون أسئلة. ولهذه الأسباب قدما إلى سانت بيترسبيرج لمقابلة بيتروفيتش وللحصول على موافقة راسكولنكوف. إلا أن بيتروفيتش كان قد اتصل ب راسكولنكوف وهو في حالة من الهذيان وقدم نفسه كرجل أحمق معتد بنفسه ووقح. رفضه راسكولنكوف فورا كزوج محتمل لأخته وأدرك أنها وافقت عليه فقط لتساعد عائلتها.
مع تقدم الرواية، يتعرف راسكولنكوف على المحقق بورفيري والذي بدأ يشك في كونه على علاقة بحادثة القتل بناء على أسباب نفسية فقط. في نفس الوقت، نشأت علاقة عفيفة بين راسكولنكوف وسونيا. سونيا على الرغم من كونها عاهرة إلا أنها ممتلئة بالأخلاق المسيحية ولم يدفع بها إلى هذه المهنة سوى فقر عائلتها. في هذه الأثناء يتمكن كل من رازوميخين وراسكولنكوف من إقناع دونيا بعدم الاستمرار في علاقتها مع بيتروفيتش والذي اتضحت شخصيته الحقيقة بأنه متآمر وحقير. في هذه الأثناء يظهر إيفانوفيتش من جديد في المشهد حيث أتى إلى مقاطعة بيترسبيرج للبحث عن دونيا حيث يقول أن زوجته مارفا بيتروفنا قد ماتت وأنه ينوي إعطاء دونيا كميات كبيرة من الأموال بدون مقابل. دونيا وبمجرد سماعها الأخبار ترفض لشكها في خيانته.
مع استمرار مقابلة راسكولنيكوف وبورفيري تظهر دوافع راسكولنيكوف للجريمة ويصبح بورفيري أكثر ثقة من كون الرجل مذنبا إلا أنه لا يمتلك دليلا قويا أو شاهدا لدعم شكوكه كما أن رجلا آخر اعترف بارتكابه الجريمة بعد اعتقاله واستجوابه. إلا أن أعصاب راسكولنيكوف استمرت في التآكل وأصبح يتصارع مع فكرة الاعتراف على الرغم من معرفته من أنه لا يستطيع أن يدينه أحد. يتجه إلى سونيا من أجل الدعم ويعترف بارتكابه الجريمة لها. مصادفة كان إيفانوفيتش قد نزل في الغرفة المجاورة لسونيا وتنصت على الاعتراف كاملا. عندما تقابل الرجلان وجها لوجه أخبره إيفانوفيتش بهذه الحقيقة وأخبره بأنه قد يستخدم هذا ضده إن أراد. إيفانوفيتش يتحدث أيضا عن ماضيه ويبدأ راسكولنيكوف يشك في أن الشائعات عن أن إيفانوفيتش ارتكب العديد من جرائم القتل صحيحة. في محادثة أخرى مع دونيا ينفي إيفانوفيتش أن له أي يد في مقتل زوجته.
كان راسكولنيكوف محطما تماما في هذه النقطة حيث كانت سونيا تلح عليه بأن يعترف كما أن إيفانوفيتش يستطيع إدانته في أي وقت. بإضافة إلى ذلك فإن بورفيري واجه راسكولنكوف بشكوكه وأكد له أن اعترافه سيخفف من الحكم ضده. في هذه الأثناء يحاول إيفانوفيتش إغراء سونيا وعندما أدرك أنها لن تحبه أبدا تركها تذهب. بعد ذلك قضى ليلة مرتبكة وفي الصباح أطلق النار على نفسه. في نفس الصباح اتجه راسكولنيكوف ثانية إلى سونيا والتي ألحت عليه ثانية ليعترف وليخلي ضميره. اتجه راسكولنيكوف إلى قسم الشرطة حيث وصلته أخبار انتحار إيفانوفيتش. تردد للحظة حيث أدرك أنه يمكنه الفرار بجريمة مثالية إلا أن سونيا أقنعته بأن يعترف.
تتحدث الخاتمة عن الحكم على راسكولنيكوف بثمان سنوات مع الأشغال الشاقة في سيبيريا حيث تبعته سونيا. تزوج دونيا ورازوميخين وكانوا في حالة سعيدة في نهاية الرواية في حين أن بولخيريا والدة راسكولنيكوف تمرض وتموت حيث لم تستطع التوافق مع حالة ابنها. راسكولنيكوف نفسه عانى في سيبيريا. إلا أنه وبعد بعض الوقت في السجن أدرك خلاصه وبدأ التجدد الأخلاقي تحت تأثير حب سونيا.لقد بلغت حياته من الاعتزال و من فرط الإنطواء على النفس أنه يخشى لقاء أي انسان.إنني أحتاج أن لا ينتبه إلي أحد.كان مدينا لصاحبه الشقه فكان يخشي أن يلتقي بها…
وليس مرد ذلك إلي أنه جبان رعديد…أو إلي أنه مروع مذعور …بالعكس….ولكنه يعاني منذ بعض الوقت حاله من التوتر والعصبيه توشك أن تكون مرض الكآبة….وقد اردت ان اقفز فوق الحاجز و ان اتخطاه بسرعة . انا لم اقتل كائناً انسانياً و انما قتلت مبدأ، ولكن لإن قتلت المبدأ فلم استطع أن أتخطاه،بل بقيت في الجهة التي كنت فيها،كل ما استطعت أن فعله هو انني قتلت حتى انني كما تبين لم اعرف كيف اقتل…جيد تحت التجربةممتازكتاب مشوق و رائعكتاب جيد شكرا لكم
الجريمة والعقاب رابط مباشر PDF