تنزيل الخطاب النقدي عند المعتزلة الدكتور كريم الوائلي :
الامين العام للجنة الوطنية العراقية للتربية والثقافة والعلوم .عضو المجلس التنفيذي للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة. دكتوراه في النقد الادبي من جامعة القاهرة ، تقلد مناصب رفيعة في وزارة التربية في العراق ، مدير عام التعليم العام ، عميد الكلية التربوية المفتوحة ، مدير عام الاشراف التربوي ، مدير عام اعداد المعلمين والتدريب التربوي ، مدير عام العلاقات الثقافية ، صدر له مؤلفات نقدية وتربوية عديدة ، الخطاب النقدي عند المعتزلة ، تناقضات الحداثة العربية ، المواقف النقدية ، الشعر الجاهلي قضاياه وظواهره الفنية ، النمط والمرآة قراءة في ادب صدر الاسلام ، مرايا وينابيع قراءة في التراث والحداثة ، التفتيش التربوي في العراق في العهد الملكي ، منهج الدراسة الابتدائية في العراق الحديث . الف اكثر من خمسة كتابا منهجيا في وزارة التربية العراقية .ليست القراءة فعلا فيزيولوجيا يتأتى بإحداث الوحدات الصوتية عبر النطق بحسب ما تقتضيه الأنظمة اللغوية لأي لغة، وإنما القراءة، سواء أكانت قراءة للعالم بوصفه وجودا يقع خارج الذات الإنسانية، أو نصا بوصفه تشكيلا لغويا، تعني : الفهم، ومن ثم فإنها تمثل نشاطا معرفيا ذهنيا يختلف ويتفاوت بحسب رؤية القارئ وبحسب طبيعة نظرته إلى العالم أو النص، والزاوية التي يتم الصدور عنها.
إن القراءة في ضوء هذا الفهم مولدة للمعاني وكاشفة للصور التي يتضمنها العالم والنص، ومن ثم فإنها تعيد إنتاج المقروء ،فكأن المقروء ـ عالما أو نصا ـ موجودا، ويصبح بعد القراءة موجودا آخر، لأن القراءة ليست نقلا للمقروء، أو إحضارا له، وإنما يضفي القارئ على المقروء رؤيته، وذاته، وخصوصيته، ويتولد من العلاقة بينهما مركب جديد، ليس هو المقروء تماما، وليس هو القارئ بما هو عليه، وإنما هو مركب منهما معا بكيفية خاصة، ولذلك تتفاوت القراءات لاختلاف القراء، وكأن المقروء ثابت قبل القراءة، وتتغير صورته ومعانيه ودلالاته بفعل عملية القراءة التي ترتبط بخصوصية القارئ ورؤيته .
ويمكن القول تجاوزا أن النص قبل القراءة يعرف استقرارا نسبيا في دلالته ومعانيه، ولكنه ـ في الحقيقة ـ استقرار متوهم، إذ لا وجود حقيقي للنص إلا في أثناء قراءته، نعم هناك وجود موضوعي فيزيفي للنص خارج الذات الإنسانية ـ متمثلا في الكتب ـ التي أنتجته، أو تقرأه ،ولكنه وجود هامد، ولكن وجودها الفعلي يتحقق عبر قراءته .
وليست هناك قراءة صحيحة وقراءة خاطئة وإنما هناك قراءة ممكنة يحتمل النص دلالاتها ويعكس القارئ رؤيته ومواقفه من خلالها، وهناك قراءة غير ممكنة، لعدم احتمال النص دلالتها، وبخاصة القراءة الاسقاطية .
إن قراءة النص بمعنى فهمه تتضمن الأبعاد التالية :
1 ـ الفهم المباشر دون حاجة إلى تفسير أو تأويل .
2 ـ التفسير، إذ حين يستعصي الفهم المباشر نشأت الحاجة إلى الانتقال إلى فهم آخر يقتضيه السياق وقرائن اللغة، فإن كلمة الوحي حين ترد دون سياق أو قرينة لغوية لها دلالة تعني الوحي الذي يتنزل من السماء على الأنبياء، متمثلا في جبريل، عليه السلام، ومن ثم تختلف عن معناها في قوله تعالى : « وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنْ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ».
3 ـ التأويل : وهو مرحلة متقدمة في فهم النص، تعني إخراج اللفظ من معناه الحقيقي الذي يدل عليه الفهم المباشر، او سياقاته، إلى معناه المجازي . ولذلك فإن التفسير بيان وضع اللفظ حقيقة كتفسير الصراط بالطريق والتأويل إظهار باطن اللفظ … فالتأويل خاص والتفسير عام فكل تأويل تفسير وليس كل تفسير تأويلا.
وتتركب عملية القراءة من ثلاثة مكونات : القارئ، والمقروء، وناتج القراءة، وقد يوحي ترتيب هذه الأبعاد أوالية القارئ، بمعنى فاعليته، وانفعالية النص، ,بحيث تكون القراءة مجرد نتيجة لعملية ميكانيكية ـ تتماثل فيها النتائج والمقدمات، وليس هذا صحيحا في الواقع، لأن هناك جدلا بين القارئ والمقروء، يتولد من تفاعلهما المحتدم وتصارعهما بفعل العلاقات المتشابكة والمعقدة والمتداخلة، ناتج القراءة، ويشتمل كل من عنصري عملية القراءة « القارئ / المقروء » على خصائص تميزه، وإن إغفال هذه الخصوصية وأدراك أهميتها يقود بالضرورة الى فهم سلبي لعملية القراءة والنتائج المتولدة منها , بمعنى أن إغفال هذه الخصوصية أو التهوين من قيمتها وأهميتها، يعني هيمنة أحد طرفي عملية القراءة، فإما أن تكون الذات فاعلة إزاء موضوعها، بحيث تلغي المقروء، أو تقرأه خارج دلالاته وسياقاته، أو أن يهيمن المقروء على القارئ، فيتحول الى مجرد ناقل، وكلا الأمرين يعني ناتجا سلبيا، يلغي أحد طرفي المعادلة، ويقدم قراءة أقل ما يقال عنها أنها قراءة سلبية .
وقد تكون القراءة السلبية ذاتية تتخذ من التراث وسيلة دفاعية يؤكد فيها القارئ ذاته، بحيث يستعيد المعايير التراثية ويضخم من جوانبها الإيجابية، ويحاول إسقاطها على الحاضر والمستقبل، والهدف من ذلك الاحتماء بالتراث في مواجهة تيارات معاصرة، وعلى الرغم من سلبية هذه القراءة فإنها في الوقت نفسه يمكن أن تسهم في بداية لقراءة نقدية واعية، لأنها تستبعد الجوانب السلبية في عصور الانحطاط، والأهم من هذا أنها تحذر من الانسياق وراء القراءة الشكلية والسقوط في الإنجازات المستوردة، غير أن التوقف عند هذه الغاية لن يحقق جديدا، لأن التراث يمارس سلطته على الحاضر والمستقبل ،وهذا ما حصل فعلا في القراءة الإحيائية التي هيمنت فيها الأصول القديمة بشكليتها وحرفيتها، وأصبحت غاية مقصودة لذاتها .
إن القراءة الفاعلة التي يتبناها هذا الكتاب تعني :
1 ـ تأكيد أهمية تاريخية المقروء ، بمعنى أنها تنفي المعايير والأحكام المسبقة القائمة على أساس ديني ، أو مذهبي ، ومحاولة تأمل أي ظاهرة في إطار سياقها التاريخي والاجتماعي ، أي قراءة النص بوصفه موجودا هناك في الماضي ، وأن وجوده محكوم بسياقات معرفية وتاريخية واجتماعية ، وان اجتزاءه عن سياقه تعني قراءة ناقصة ومشوهة له .
إن التراث جزء من بناء معرفي أشمل ، وجزء من منظومة ، وينبغي فهمه في إطار منظومته ، وإن إخراجه عن منظومته يعني فهما مخلا لطبيعته وماهيته .
2 ـ إن فهم التراث بوصفه موجودا هناك في إطار سياقه التاريخي لا يعني بالضرورة أنه منفصل عن القارئ إذ يمكن تأمله وفهمه وإدراك دلالاته .
3 ـ نفي القراءة الانطباعية الانفعالية التي تصدر أحكاما مسبقة على الأشياء وتقيم قراءة تتأسس على عقلانية منهجية تؤكد أهمية النظر ، وتعلي من شأن التحليل والتعليل .
إنّ هذا النمط من الدراسة يوازن في الوعي بين إنجازات التراث النقدي وإمكاناته الفكرية والفنية وبين الوعي بالحاضر الذي يرفدنا برؤى وأدوات وتقنيات إجرائية، وتولّد من تلاحم الوعيين ـ الماضي والحاضر ـ تجادل متفاعل يجعل الدارس متبصراً بمعضلات الحاضر النقدية ونظائرها في التراث، وهذا من شأنه أن يدفع إلى تحسس هويتنا التي أخذت تترنح بين التغريب والتجهيل، كما أنه يبعث على إقامة حوار مستمر مثمر لا قطيعة فيه بين ماضينا وحاضرنا، ومن هنا تكتسب العلاقة الجدلية الفاعلة بالتراث أهميتها وحيويتها، وتتأكد جدواها وفائدتها .
إنّ تركيز البحث على دراسة المعتزلة يعني الكشف عن تصورات هذه المدرسة الفكرية المتميزة في أثناء معالجتها للقضية النقدية من زواياها المختلفة، كما أنه يساعد على الإحاطة الشاملة لوحدة تصور متكامل للمعضلات النقدية دون التشتت بين الآراء المختلفة والتيارات المتباينة، كما أنه يكشف من زاوية أخرى عن مقدار انسجام أتباع هذه المدرسة أو افتراقهم عن الأصول الفكرية والعقائدية التي يصدرون عنها، ومقدار التزامهم بالتحليل العقلي لاعتبارهم العقل أداتهم الجوهرية المتميزة.
واتجه البحث إلى دراسة المقياس النقدي الذي يستخدمه الناقد في تفسير النص الأدبي وتحليله وتقويمه، ويسعى البحث ـ من هذه الناحية ـ إلى الكشف عن آثار الفكر الاعتزالي في تحديد مكونات المقياس، وتحديد دوره في التفاعل مع النص الشعري، والكيفية التي يسهم فيها المقياس في تمكين الناقد من درس النص الأدبي متجاوباً مع تفكيره من ناحية، ومستغلاً أدواته النقدية من ناحية ثانية .
إنّ المقياس النقدي لا ينفصل عن الفكر الذي يصدر عنه، ولا يبتعد عن طبيعة المشكلات التي أفرزها الواقع بل هو خاضع لهما بدرجات متفاوتة، بحسب نوعية المقياس ودوره في معالجة النص الأدبي، وبحسب إجابته عن المعضلات التي يشتمل عليها الواقع، كما أنّ المقياس النقدي ليس منفصلاً عن العناصر الجوهرية المكونة للتصور النظري النقدي إن لم يمثل الجوهر الذي يرتكز عليه هذا التصور، ولذا فإنّ دراسة المقياس النقدي تمثل تحاوراً وتفاعلاً بين الفكر وأدوات التحليل من ناحية، وبين الفكر والتصورات النقدية من ناحية ثانية، كما أنه يمثل تأسيساً لـ »نظرية للشعر« في التراث النقدي من ناحية ثالثة .
ويتأسس هذا البحث على تمهيد وأربعة فصول، وخصصت التمهيد للعناية بمحورين : يعنى أولهما : بوصف مصادر البحث وتقويم مراجعه، وتتركز فيه العناية، بوصف مصادر البحث من جهتي المضمون والبيبلوغرافيا من ناحية، وتقويم الدراسات التي تعرضت إلى موضوع بحثنا على نحو من الأنحاء من ناحية ثانية، ويعنى المحور الثاني : بالأصول الفكرية للمعتزلة التي يتجلى من خلالها موقفهم من الله والعالم والإنسان .
ويتخصص الفصل الأول بـ» المقياس اللغوي « وهو يهدف إلى الكشف عن جماليات الأنظمة اللغوية ـ صوتية، وصرفية، ونحوية ـ ويركز على التمايز بين معيارية هذه الأنظمة ومدى توظيفها لتأدية دلالات جمالية، ويحاول الكشف عن القوانين التي تتحكم في هذه الأنظمة ومدى كشفها عن جماليات يسعى الناقد إلى تأصيلها .
أما الفصل الثاني فيعنى بـ »المقياس البلاغي « الذي يعنى أساساً بالتمايز بين الأداء النمطي ـ العادي ـ والأداء الفني ـ الأدبي ـ من حيث التشكيل، ومن حيث التغير الوظيفي، ويعنى أيضاً بالأنماط البلاغية التي يعتمدها هذان المستويان من الأداء، مما اقتضى تتبعاً لموضوعات عديدة : كالمحكم والمتشابه، والمجاز، والتشبيه، والاستعارة، ونحوها .
ويتخصص الفصل الثالث بـ» المقياس النقدي « الذي يعنى بأربعة مقومات جوهرية في النظرية النقدية، أولها : لغة الشعر من حيث تشكيل هذه اللغة وتمايزها عن الأنماط اللغوية الأخرى، وثانيها : الإيقاع، ومقدار ما يؤديه من وظيفة من جهتي التشكيل من ناحية، والتأثير بالمتلقي من ناحية ثانية، وثالثها : الصورة الشعرية، من حيث وظيفتها وأنماطها وكيفية تشكيلها، ورابعها : بنية القصيدة في ضوء تركيب أبياتها، وتتالي وحداتها المختلفة .
ويعنى الفصل الرابع بـ» المقياس الجمالي « إذ يدرس » قيمة « الشعر من حيث علاقتها بالحسن والقبح العقليين، ومن حيث مكوناتها الخارجية والتشكيلية ، كما يدرس »المثل الأعلى « بوصفه معياراً جمالياً وعلاقته بالصورة الذهنية من جهة، وبالواقع من جهة ثانية، وكيفية تأدية دوره في تشكيل القصيدة،كما يعنى هذا الفصل بماهية الشعر من حيث المكونات الشكلية والخصائص النوعية، وتوقف أخيراً عند مهمة الشعر، إن كانت توصيلية أو تزيينية أو نحوهما .
إنّ هذا البحث قد تتبع مقاييس نقد الشعر من أبسط مستوياتها إلى أكثرها شمولاً، بمعنى أنه تتبع المقاييس ابتداء من عنايتها الجزئية بالوحدات الصوتية منفصلة أو ممزوجة بغيرها، ومروراً بالعناية بالأشكال البلاغية المتعددة، فضلاً عن تتبعه لغة الشعر والإيقاع والصورة وبنية القصيدة، وانتهاء بتتبع الأبعاد القيمية للنص الشعري، وماهية الشعر وتأديته للوظائف المختلفة، وهذا يعني أنّ البحث قد أحاط في الوقت نفسه بمقومات »نظرية الشعر « من زوايا مختلفة .
وينبغي أن أؤكد قضية مفادها أنّ توزيع مقاييس نقد الشعر بأنماطها المختلفة ـ لغوية، وبلاغية، ونقدية، وجمالية ـ إنما هو تقسيم فرضته طبيعة البحث، لأن هذه المقاييس ليست مستقلة ـ في الحقيقة ـ عن بعضها، فهي تتفاعل وتتقاطع، وتشترك في بعض المكونات والخصائص، فالمقياس اللغوي ـ مثلا ـ ليس مستقلا عن أداء أبعاد جمالية، كما أنّ المقياس البلاغي ليس منفصلاً عن الأنظمة اللغوية، فالفصل ـ في هذا السياق ـ متعمد فرضته طبيعة البحث .
الخطاب النقدي عند المعتزلة رابط مباشر PDF